رأينا سابقا أن الإتكاء على مرجعية موحدة من شأنه أن يؤسس لمشروع تربوي كفيل بتحقيق نهضة شمولية، وتنمية رائدة تنسجم وتوجهات الأمة ومقوماتها الحضارية وإرثها الثقافي والتربوي والعلمي. كما رأينا أن تعدد المرجعيات يفرز انشطارا يعكس استمرار نقل المدارس الغربية إلى بلادنا العربية مما يشكل خطرا على تنشئة المتعلمين ومستقبلهم العلمي. لقد كان من أخطر نتائج غفلتنا عن ماضينا التربوي إحساسنا أننا عالة على غيرنا في ميدان التربية وعلم النفس، وبذلك تجاهلنا نتاج قرون مديدة من الإزدهار الفكري والثقافي عاشته أمتنا الإسلامية وأنجبت علماء أعلاما كانوا وبكل المقاييس ممن تفخر بهم أية حضارة وتباهي بهم الأمم. وأرى أن المضي في الحديث عن أحدهم يجعلنا ندرك جهودهم في استنباط المناهج التربوية من المصادر الثابتة وكيف كتب لهذه المناهج أن تحيى رغم قدمها وأنى ساهمت في الإخراج الحضاري لهذه الأمة، ولنأخذ عالم سوس وبدون منازع محمد المختار السوسي (1889-1963) ابن إليغ (جنوبتزنيت) ومؤسس نظرية تربوية ارتكزت على بيان ما لاعتماد المبدأ المرجعي من دور في الإفادة من التجارب الإنسية والعمل على تأصيلها ورسم مسارها العام مع الحفاظ على الهوية الأم. 1. آراؤه في التربية والتعليم: نادى بتعميم التعليم في جسم المجتمع، وجعل من بناء المدارس وتعليم الأجيال وخدمة اللغة العربية شغله الشاغل"اختار الجانب الثقافي والعلمي من العمل الوطني على غيره واتجه إلى التعليم، فكان ينشئ المدرسة حيثما قطن وأقام" عبد الكريم غلاب، الماهدون الخالدون، ص 267، حول زاوية أبيه الدرقاوية إلى مدرسة للغة العربية والعلوم الشرعية، وذلك من أجل تثبيت وجود المتعلمين وبغية المحافظة على انتمائهم وجعلهم غير تابعين، رسخ هذه القناعات لديهم من خلال انخراطه بقوة في تعليمهم وتربيتهم، واتخذ من إخلاص العبودية لله غاية يلزم أن تنقش في أذهان الأطفال وعمارة الأرض بواسطة هذه الغاية، وتأتي بعد ذلك غايات كبرى يسير نحوها المستهدف من العملية بخطى محكمة، قال أحد طلابه: "حينما كنا نجلس إلى الأستاذ المختار نجد أنفسنا أمام دائرة معارف عربية إسلامية تاريخية. . لقد كان قارئا يقرأ ويدرس في نهار طويل يبدأ قبل الفجر ولاينته إلا مع صلاة العشاء"الماهدون الخالدون، ص 262. أ- نشر اللغة العربية: دعا إلى تعليم ونشر اللغة العربية بهدف إحداث إقلاع تنموي في كل مناحي الحياة، وعارض بشدة تعليم الصغارالشلحة، قال السوسيون أجانب عن لغة الضاد ولكونهم لا يكادون يتذوقون حلاوة أساليب اللغة العربية حتى يبقوا دائمين على مزاولتها شغفا بها.. وحين تكون اللغة والنحو والتصريف أول ما يسبق إلى أذواقهم ينسوها وإن شاركوا في غيرها"حوار مع صديق أمازيغي، ياسين، ص 233. ورد على أصحابه وقد طلبوا منه أن يعلمهم الشلحة-مقابل أن يتولى كل معتقل تعليم الآخرين ما يتقن- "أوهو-لا أنا أعلمهم العربية لأنها اللغة التي يجب أن تتعلم"الماهدون الخالدون، ص 262. وليس معنى هذا أنه كان ضد الإقبال على تعلم لغات أخرى وإنما كان يعترض على تلقينها الصبية في سن مبكرة وهم لم يتقنوا بعد اللغة الأم، وذلك لما للغات الأجنبية من حمولات فكرية وحضارية وقيمية تصل حد التناقض لمرجعيتنا ومبادئنا، وقد أعلن رفضه لما "رأى براعم تسقى نبتتهم بزعاف العجمة، عجمة اللسان تحمل مميتات عجمة العقل والقلب" حوار مع صديق أمازيغي، ص: 229. ب- حدة المرجعية وخطر التعدد: كان محمد المختار من أشرس المناهضين للثنائية في المدارس الوطنية، إذ تبين له أن اختلاف وتناقض مرجعية المتعلمين وتعدد منابعهم التربوية خطر على حاضرهم ومستقبلهم، خط قلمه في معتقل أكردوس ما يلي"فوالله لو كان لي في هذا المعتقل رأي وحدي لخرجت في العربية تخريجا يضرب به المثل، ولكن واأسفاه تعدد المرشدون عليهم بلسان الحال فمن أراد أن يعلمهم يريد أن يسلك بهم مسلك الصبية بحيث يعطيهم حبة حبة ومن أراد أن يثقف عقولهم يجعلهم بحيث ينسلخون عن كل حياء واتباع وحسن ظن، ثم لا يؤدي ذلك إذا لم ينضج الإنسان إلا إلى الإلحاد أو الإعتساف حتى لا يدري يمينه من شماله". حوار الماضي والمستقبل، ص:276 . نستبين مما سبق أن غياب الثوابت المرجعية المحددة المنبثقة من فلسفة الحياة التي تتبناها الأمة من شأنه أن يكون سببا في التغريب والبعد عن العلم- ومع العلم الإيمان والأخلاق-فتضطرب الأجيال وتشقى وتنشأ هجينة بعيدة عن دينها وتاريخها ولغتها وتصاب بانفصام يعيق إسهامها في صناعة الحياة الآمنة... 2. أساليبه التربوية: أ- حب العمل: ركز محمد المختار على الإنجاز وأداء العمل بحب وشغف منقطع النظير، فرسم منهاجا متكاملا شاملا يصب في الحفاظ على الهوية الدينية للأمة، فكان يدرس الدين واللغة مما أكسب تلامذته"ملكة علم وإدراك وقواعد معرفة الناس والرسوخ في الدين ولم يكن يهمه إلا أن يخرج الأميون وهم يقرأون وأعينهم متفتحة في دينهم كما تتفتح في السياسة التي لابد منها"حوار الماضي والمستقبل، ص:277. ب- حب المتعلمين: أولى العلاقات الإنسية الصادقة اهتماما بالغا فكان واضحا في انشغاله باحتياجات متعلميه وتحسين أوضاعهم المعنوية والمعرفية" علمهم السيرة وأحيى فيهم اللغة ونبغ منهم من نبغ، وأهم من ذلك أنه جمع القلوب وأحياها، كان رحمه الله ورحمهم يعلم أن أقرب مسلك لاحتلال القلوب والتمكن فيها اللغة لذلك كان لقب"معلم الجرومية"يعتز به"حوار الماضي والمستقبل، ص: 275 ، لقد وفق هذا المربي في اهتمامه بالعمل وبالناس بشكل متوازن مما كان يعينه على دفع متعلميه نحو أهدافهم بشكل فعال... ج- التحفيز والتشجيع: إذا كان التحفيز فن يدرس في معاهد إعداد القادة اليوم، فإن المختار كان سباقا لاتخاذه أسلوبا تربويا كفيلا بتحقيق التغيير وجمع القلوب وتحقيق التمكين"كان حريصا على إيقاظ الهمم وتحريك الإرادات وتعليم العقول، كان يوقظ أصحابه لصلاة الفجر وينظم قصيدة لتهنئة هذا على اجتهاده في الدين ورسوخه، وينظم أخرى ليعاقب ذلك بلطف المربين على تهاونه ويعبر عن مرارته وتذمره من شباب يستيقظ قبل الفجر لحصة الرياضة وينام عن صلاته "حوار الماضي والمستقبل، ص 280.. لقد تفطن الرجل إلى ما لمنهاج ترتيب الأولويات من دور في السيطرة على الحياة هذه السيطرة التي تمنح المرء التوازن وتدفعه إلى الإنجاز لذا نراه يعجب من شباب يمارس الرياضة ويترك الصلاة ، وأنا أعجب ممن يجمع بين الصلاة والمنكرات يقول الرافعي:لست أدري كيف جمعت بين صليت وغنيت؟ د- القدوة الحسنة: اتخذ المختار من قول الباري: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" الأنعام 162-163 شعارا يحرك به المتعلمين نحو أهدافهم في الحياة الدنيا وبعدها. كان يمارس عمله متذكرا أن الله هو خالقه وهو الذي منحه القدرة على الإنجاز وكان عليه أن يعلم وفق أوامر خالقه بالضوابط والحدود التي رسمها الباري، وهذا معناه الصلاح عنده وبه تصلح الأمة، إن هذه القيادة التي تجمع بين العلم وخشية الله تفضي إلى تحقق الإستخلاف الذي لابد فيه من" الزعامة والإمامة حيث كان يشترط امتزاجهما لقيادة الوطنيين ويأخذ عهودا على من يرى شروطهما مكتملة فيه ليمزجن الإثنين في القدوة الحسنة –يوم يرجع من منفاه-ليقود أمته إلى حيث كان هؤلاء المؤسسون الصالحون يريدونها أن تسير" حوار الماضي والمستقبل، ص: 276. وهذه عندي التربية الصامتة أنجع الطرق التربوية، إذ توتي أكلها في كل حين من غير فوضى ولا تشويش"كن مستقيما يستقم من حولك". . . . ه- أهمية استثمار الوقت: آمن المختار بقيمة الوقت وقدره، فكان يحث على حفظه وإنفاقه فيما يفيد وينفع ويرقى بمستوى المتعلم والمعلم لإعمار الأرض وفق منهج الله"كان معه دائما فائدة وسؤال وتنبيه وعويصة من قواعد العربية يطرحها في مجالسه ويقترحها ويتدرج منها بحث لغوي أو تحليل شعري أو مسألة أدبية. . . " ارتبط عنده تحصيل التفوق باستثمار كل الأوقات في البحث والتحليل والتنقيب وذلك لإيمانه بأن حصة الدرس وحدها لا تكفي للتعلم ومن تم صناعة حضارة. . . واجب كل مكلف نحو وطنه يقول الرافعي"إن لم تزد شيئا على الدنيا، كنت أنت زائدا على الدنيا" لا يسعني إلا أن أقول إنه ليس بالإمكان النهوض والإرتقاء بمجال حيوي كالتربية والتعليم دون الإنطلاق من المرجعية الإسلامية للأمة التي تقوم على الكتاب والسنة، المبدأ التاريخي ، مبدأ اعتماد اللغة العربية مبدأ الإنفتاح الإيجابي، وذلك بالإستفادة من التجارب الإنسية ثم العمل على تأصيلها. . والغاية من هذه العمليات تكمن في إعمار الأرض بشكل بناء وفق منهج الله. تبين مما سبق أن محمد المختار كان أحد أصحاب نظرية تربوية رصينة ومشروع فكري شاهد على جهوده في سبيل دينه وأمته، كانت البداية من تكوينه العلمي العميق ومن حبه للمهمة التي اختار مزاولتها، فرسم لها حدودا ضمنت له تحقيق غايات دقيقة، كانت البداية من: تشييد المدارس ونشر اللغة، جمع التاريخ وكتابته بهدف الدفاع عن مقومات المغرب الحضارية والقيمية خدمة الدين والتاريخ واللغة العربية دون تعصب أو ازدواجية أو مسخ للهوية ودون ولاء لغير الله تحقيقا للأمر الرباني: "وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك" القصص 77 . مات الرجل وبقيت آثاره شاهدة على نبوغه وتمسكه بدينه ومقومات هويته الإسلامية، ويتذكر له التاريخ مقاومته لاعتماد مرجعيات دخيلة وتنبيهه إلى ما لذلك من أثر في تمزق المجتمعات وانشطار رؤاها وضياع أحلامها. . .