هل صفا الإيمان وخلُصت العقيدة عند ريفيي ما قبل الإسلام فكانوا يدينون بنوع من التوحيد؟؟ هل وصل أجدادنا الريفيين ما يزري بالوثنية وتعدد الآلهة فكانوا من الإسلام قاب قوسين أو أدنى؟؟ إن لم يكن، فقد كانوا أسلم فطرة وأقرب إلى الدين الحق، وذلك ما يستخلص من وقائع التاريخ. والقارئ لما يكتبه الأستاذ العروي عن عقيدة مغرب الوسط الذي يشمل الريف يخرج يقينا بتلك النتيجة "انظر: مجمل تاريخ المغرب ج1 ص115-128" ولعل ما عرفه أهالينا هو بقية من دين إبراهيم عليه السلام. الريف إذن بوديانه الخصيبة، والمنسابة بين الحقول الملأى بألوان الخيرات، وجباله المغطاة بأصناف الشجر والفاكهة، وطقسه المعتدل المتناغم مع البيئة الرطبة، عرف دينا أقرب إلى التوحيد هيأه لقبول الدين الجديد فلم يصعب على أهاليه الاستجابة لدعوة الإسلام أول ما وصل حاملوه إليه. كان ذلك مع العبد الصالح، صالح بن منصور أول داخل إلى الريف الأوسط بتمسمان، تقول الرواية: "وعلى يديه أسلم بربرها وهم صنهاجة وغمارة، ثم ارتد أكثرهم لما ثقلت عليهم شرائع الإسلام وقدموا على أنفسهم رجلا يسمى داود ويعرف بالرندي... وأخرجوا صالحا من البلد ثم تلافاهم الله بهداه وتابوا من شركهم... واستردوا صالحا" [1]. وتفيد الرواية أن الدين تعزز أكثر مع حفيده سعيد، بنى النكور فغدت منطلقا للدعوة وجهاد المجوس "ص92". كما بنى على نهر غيس مسجدا على صفة مسجد الإسكندرية "ص90". ويشير البكري إلى وجود "رباط النكور" في طرف يقال له أكدال يجتمع فيه نهري غيس ونكور"ن. ص". كان لدعوة صالح وبنيه إذن إشعاع وصدى في المنطقة امتد إلى الآفاق، دعوة الإسلام في صفائه وروحانيته الأولى كما هو، وكما عرفه خير القرون، في شموله وسلوكه الجهادي الجامع بعيدا عن كل تأويل فاسد أو انشقاق مذهبي. يقول باحث معاصر: "لا شك أن المنطقة عرفت تجمعا مهما من اليهود في عهد إمارة النكور، بفضل نشاطهم التجاري" [2]. وقد استنتج ذلك من الإسم الذي يحمله أحد أبواب المدينة والمعروف ب"باب اليهود". بيد أن من مزايا الديانة اليهودية أنها ضنينة بعقيدتها إلا على أبنائها من بني إسرائيل وقليل ممن نقصت مروءتهم وأنسوا إليها لضالة في النفس وهم أبعد من أن يعدوا في حساب التاريخ، وذلك ما عصم أهالينا الأصلاء من أن يصيبهم رشاشها. وإن جاز أن نتحدث عن دين يهودي اعتنقه ريفيون بالمربى والبيئة وربما لا يزالون فهم أقلية غريبة لا تستحق أن تذكر لقلتها ولعدم تأثيرها في أسلوب العيش ونمط الحياة، إذ لا نجد مؤلفا تحدث عن أثرهم في البلاد. رأينا الأهالي ثاروا أول الأمر ضد صالح ثم تلافاهم الله بهداه فاستردوه، حدث نفس الشيء مع حفيده سعيد إذ خذلته بنو يصلتين مع الثائر سعادة الله حتى اضطروه للخروج، فلما أمكنه الله منهم، صالح سعادة الله سعيدا" ص94". استبدلوا شخص الحاكم ولم يطلبوا صلاح أمره بإبقائه وإمهاله، أشبه بما حدث مع والد الأمير الخطابي منذ حوالي قرن، هي خاصية من خصائص النفسانية الريفية تبرز أثناء اشتداد الأزمات، ولا يهذبها وينقص من حدتها إلا تزكية دينية، وذلك يحتاج إلى تربية وقدوة. نعود إلى البكري ليحدثنا عن مذهب الريفيين فيقول: "وكان لسعيد من الولد منصور وحمود وصالح.. وعبد الرحمان الشهيد.. وكان عبد الرحمان فقيها بمذهب مالك وحج أربعا وعبر إلى الأندلس للجهاد" [3]. ويضيف خبرا ذا مغزى لموضوعنا، قال: "ولم يزل آل صالح في السنة والجماعة والتمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله عنه وكان سعيد وأبوه صالح يصليان بالناس ويخطبان ويحفظان القرآن" [4]. المذهب طريقة في فهم الدين، ومنهج اجتهاد في فروعه، وفقه مالك أخذه عن أهل المدينة وهم ورثوه عن الصحابة، لذا فالمذهب وجد قبل أن يدون وتبوب مسائله، ومن ثم فهو سني له سنده من عمل الصحابة. لم نشأ أن نتحدث عن الأحداث وتفصيلات تلك الحقبة إلا ما له صلة بموضوعنا وهو البحث في طبيعة النزعة الدينية عند أجدادنا الريفيين، وإن كان من ملاحظة نستخلصها مما سردنا من نصوص، فهي أن عقيدة الريفيين مرتبطة بشخص الداعي. فلم يكن الداعي مجرد معلم وكفى منعزلا بوظيفته الدعوية، بل كان قدوة ومربيا، فهو الحاكم والخطيب والمعلم ومحفظ القرآن، وهو قطب الدين ورأسه، به تنصلح الأمور وبحاله تقوم وتنهض الجماعة. وبتعبير عصري: هو الأب الروحي للجماعة منه تستلهم دينها وبه تقتدي وتسترشد. في تلك العصور كان الأدارسة يقومون بنشر دعوتهم ف"مست شمال المغرب، من تلمسان إلى المحيط ومن المتوسط إلى ثغر شالة (..) واتسمت الدعوة ب"تشيع حسن" أي بتعلق بآل البيت" [5]. بلغت الدعوة الإدريسية الريف إذن، فانضمت إلى إدريس الأول قبائل ".. مكناسة وغمارة حيث كانت ترى فيه سليل الرسول عليه السلام" [6]. ولا يعني التشيع ما آل إليه الأمر في القرن الرابع من غلو وتقديس، كما دانت غمارة وصنهاجة بالولاء لحفيده عمر بن إدريس الثاني "البكري ص124". أما النكور فإن لم تمنح الأدارسة ولاءها السياسي فقد فتحت أبوابها للمضطهدين منهم، نقرأ للبكري الخبر التالي: "تزوج أحمد بن إدريس بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخت سعيد أم السعد بنت صالح وابتنى بها وسكن معها مدينة نكور إلى أن مات" [7]. فنحن، إذن، مع البواكير الأولى لاستقرار الشرفاء بالريف. وذلك على الأرجح في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري. هناك إذن تعظيم للشرفاء وإحلالهم منزلة موقرة، وولاء قلبي وسياسي لدعوتهم، وأيضا نرى سهولة الإستجابة للدعوة والتعلق بها. ميزة النزعة الدينية الريفية إذن وسمتها الخاصة هي "التعلق بآل البيت" والاِرتباط الروحي بدعاتهم. في سنة 304ه غزا الفاطميون مدينة النكور وقتلوا أميرها وسبوا وخربوا وهرب من نجا منهم من ذرية سعيد بن صالح إلى الأندلس، وكسبوا ولاء بعض القبائل من صنهاجة وغمارة وبادس، ثم افترق أمر الفاطميين فأزمع بنو سعيد "الانصراف إلى بلدهم ثقة بمحبة رعيتهم لهم وميلهم إليهم... فركبوا البحر... فوصل أصغرهم سنا صالح بن سعيد إلى مرسى النكور من ليلته وأصبح بالمرسى المعروف بوادي البقر بتمسامان فتسامع البربر بقدومه فتسارعوا إليه من كل جانب وأتوه من كل جهة وعقدوا له الإمرة ولقبوه باليتيم لصغره وزحفوا إلى دلول (الفاطمي المستولي على نكور) فأخذوه وجميع أصحابه فصلبوا أجمعين على ضفتي نهر نكور وكتب صالح بالفتح إلى عبد الرحمان بن محمد فقرئ كتابه بجامع قرطبة" [8]. واضحة، إذن، طبيعة العلاقة التي تربط الأهالي بالدعاة، عاطفة تشدهم إلى الداعي يهون أمامها كل شيء. وظهور "حاميم" المتنبئ بغرب الريف في تلك الحقبة علامة على رسوخ هذه العاطفة في نفوس الأهالي، لذلك جاءهم المتنبئ من هذا الباب مُستغلا مُضللا، فما كان لشخص أن يظهر بدعوة كهذه ويبقى ردحا من زمن من غير سند من الأتباع يبايعونه بوحي من عاطفتهم، بمعنى أنه نادى فيهم حاسة التقديس الكامنة في نفوسهم، لذلك اعتقدوه ورفعوه نبيا. داعية هذا الشعور لازم الريفيين ورافقهم وهم بالأندلس بعيدا عن موطنهم الأصلي، في أواسط القرن الثاني الهجري ماجت البلاد بالفتن والولاءات المتعادية فكان لابد من سند شرعي وروحي لجمع المسلمين حول الإمارة، يقول مؤرخ معاصر: "إن الجماعات العربية في الأندلس كانت عنيدة قوية المراس شديدة اليقظة مريرة النقد، وكانت جماعات المولدين وحديثي العهد بالإسلام في حاجة إلى سلطان روحي غالب لكي تسلس قيادها لحاكمها، وهذه الظاهرة كانت أظهر بين البربر: كان لابد أن تأخذ الرئاسة في نظرهم بعدا دينيا حتى يسلموا بحقها" . وهكذا ظهر ريفي "دَعِيٌّ يسمى شقي بن عبد الواحد انتسب إلى السيدة فاطمة واتخذ لقب الإمامة وتبعته جماعات كبيرة من البربر وامتد سلطانه حتى كاد يخرج غرب الأندلس كله من يدي عبد الرحمان الداخل، ولم يستطع هذا القضاء عليه إلا بعد حروب طويلة دامت تسع سنوات (152-160ه)" [9]. نرجع إلى ابن عذاري فنجد أن هذا الداعي البربري "من مكناسة العُدوة" [10]. ومعلوم أن مكناسة من أخماس تازة، فهو ريفي صميم. بيد أن الأهالي ما لم يسسهم الداعي ويربهم بالمحبة يسؤ الحال ويثر الريفي مهما ادعى الداعي نسبه وشرفه. لذلك وجدنا شاعرا قريبا من دارهم على هامش الريف من طنجة يهجو ويذم ما عليه المتنبئ حاميم وأصحابه فقال كما جاء في كتاب "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى" ص21: وقالوا افتراء أن حاميم مرسل إليهم بدين واضح الحق باهر فقلت كذبتم بدد الله شملكم فماهو إلا عاهر وابن عاهر روى عن عجوز ذات إفك كهينة تجاوز في أسحارها كل ساحر أحاديث إفك حاك إبليس نسجها يسرونها والله مبدي السرائر وبلا شك ثار عليه وخذله الأهالي بعد ذلك، إذ لم تصمد دعوته سوى زمن يسير. أما الداعي البربري بالأندلس فقد "تمادت فتنته... إلى أن اغتاله بعض أصحابه فقتله" [11]. ويزيد من تأكيد هذا الأمر رواية البادسي عن أخبار القرن السابع فقد روى من "المقصد الشريف" "أن رجلا من قبيل بني جميل من صنهاجة بادس اسمه الحاج العباس بن صالح ادعى أنه رسول الفاطمي ودخل بادس عنوة وسبى وقتل وتمادى إلى المزمة فقُتل بها، عام 686ه" [12]. على حال من التمييز بين الدعاة وطبيعة الدعوة كان الريفي، لكنه في الوقت نفسه لا يقر له قرار إلا بقدوة ربانية تهديه وتأخذ بيده. والبادسي يُجلي لنا هذا الحال في الريف الأوسط أثناء القرنين السادس والسابع من الهجرة، صوفية منتشرون في البلاد من أبي داود بتمسامان والحاج علي بن حسون الأدوزي ببقيوة وللا ميمونة ببوسكور وعلي بن ماخوخ ببني توزين ويقال أنه شريف النسب إلى كثير من الصوفية هنا وهناك كانوا مصدر إشعاع ديني فزواياهم ومساجدهم مدارس تربوية، منهم إمتد الإيمان إلى قلوب الأهالي، ولا نكاد نجد مصدرا يتحدث عن فقهاء من غير الصوفية أو ذوي تحفظ من السلوك الصوفي، لذلك لا نمل من تكرار أن بقاء الإسلام بديارنا مستفاد من جهودهم الدعوية والتربوية، وعلاقة الأهالي بهم لم تكن مجرد تلمذة وإفادة في علوم الدين وكفى، بل تعدتها إلى صلة أعمق وأقوى: صلة الصحبة والمحبة وهي العمدة في كل سلوك صوفي. مسألة الصحبة أو الإرتباط العاطفي بشخص الداعي بادية بوضوح في أهل جزناية من الريف الأوسط زمن الموحدين، هذا ما يشير إليه بوضوح سؤال مرفوع إلى مفتي تازا الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المومن عن طائفة جزناية من أخماس تازا فجاء في وصفهم أنهم "قوم فارقوا الجماعة ويكفرون المسلمين ولا يأكلون ذبائحهم ولا يصلون خلفهم ويقولون من لم يؤمن بالمهدي بن تومرت فهو كافر ويفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويقولون من لم يعلم اثني عشر بابا من التوحيد فهو كافر... إلخ" [13]. هكذا كان يعتقد أهالي جزناية في ذلك الزمان، غلو في محبة المهدي وتقديس لشخصه فاق الوصف وجاوز الحد،هي مهدوية ريفية ظهرت في ذلك الجناح من البلاد. وإن كنا نحكم كما حكم المفتي أبو عبد الله وقتها ببطلان هذه العقيدة بما "تقتضيه أدلة الشرع"، فإن ما يهمنا هو تلك النزعة التي تسكن الريفي فبرزت في أهل جزناية على هذا النحو وبتلك الدرجة من الانحراف والغلو المذموم فيما اكتفت قبائل أخرى بالولاء السياسي، فلنسمها نزعة الإرتباط الصوفي بشخص الداعي. هي نزعة أصيلة في التكوين النفسي والذهني للريفيين. لا يرى الريفي الداعي مجرد مبلغ وانتهى الأمر، لذا فحاجته الروحية ستلبيها الزاوية بشيخها المربي لا المعهد أو المدرسة بمعلمها الذي لا يراعي شعوره بالحاجة إلى قدوة. لذا كانت السيادة للمشايخ. أستطيع أن أسرد الكثير من الأمثلة عن ارتباط مجموع أهالي الريف بمشايخ التصوف خلال القرون الماضية في شتى أدوار الحياة حتى الإقتصادية منها، لكن لا حاجة لإثقال مقال موجز بما لا يسعه حجمه مادامت الرؤية قد اتضحت عن طبيعة النزعة الدينية عند أجدادنا. والمهم أن نعلم ونحن نعالج هذا الأمر الذي قد يستهونه البعض ولا يرى به أمرا ذا بال في نشدان التغيير، أن التغيير والإصلاح مرتبطان بتغيير النفوس والذهنيات وذلك يحتاج إلى قدوة لها من النموذجية ما يفرض سلطانها على النفوس ويقلب وجهتها، وذلك متعذر غاية التعذر والإمتناع على طالبي التغيير إن لم يأتوا الأمور من أبوابها. ولا يغيب عنا ونحن نبحث في طبيعة النفس الريفية البعد السياسي فيها، فالقدوة التي يحتاجها الريفي هي القدوة الجامعة بين ضبط شؤون الإجتماع وتدبير الحكم وبين التوجيه الديني وتربية الإيمان، قيادة ربانية بتعبير الأستاذ عبد السلام ياسين. وقد رأينا فيما استعرضنا من شواهد من التاريخ كيف يرتبط ولا ينفك مطلب عن آخر. هذه الحاجة إلى قيادة ربانية تكون معقد الرجاء ومناط الآمال كامنة في الوعي الباطن للريفيين، هذا ما أعتقده في جل مجتمعات المسلمين، بيد أنه في أهالينا آكد وأوضح بشواهده وأدلته، ولعل مقارنة سريعة بين الريف حال وجود الأمير الخطابي بما قبله وما بعده تكشف عن هذه الحقيقة الغائبة. فلم يكن عندهم قائدا وكفى ولا ثائرا كباقي الثوار، فهو لم يجمعهم على الحرب وكفى، ولم يكن أسلوبه في تعبئة جهودهم كأسلوب مناضلي ومقاومي زمانه، بل كان في ذلك الداعية المؤمن والقدوة المربي كما كان الزعيم الإصلاحي صاحب رسالة تروم النهوض ببلده المشتت المنهار. حضور له إشعاعه وهيبته حضرت معه قلوب الأهالي فاجتمعت حوله مناصرة مؤازرة، حتى إذا غاب عادت الأمور إلى سالف عهدها من الفرقة والضياع. وبعد، فالحاجة إلى قيادة تبسط سلطانها على النفوس لتنقاد وتتجند وراءها فكرة قد تثير المثقف المزهو ببضاعته المتلفع برداء أنانيته، وقد تثير الرعب عند آخرين ممن يتخوفون من مستقبل تؤول فيه الأمور للإسلاميين، بيد أن تجربة الأمير في تعبئة الأهالي ترينا كيف تُحول دعوة ربانية مجتمعا غارقا في وحل التمزق والعداء القبلي إلى مجتمع قوام بنيته التضامن والتماسك وولاية البعض للبعض، تلك اللحمة الرابطة بين الأفراد والأسر والتي كانت أهم عناصر القوة ما يغني لإحياءها وتجديدها لمن يشكو مسخ "البنية الاجتماعية الموروثة" منذ قرون مجرد النقد والدرس والتذكير إن لم يسند هذه نورانية تبعث في القلوب حياتها وتعيد إلى الروح إيمانها وحرارتها. وللنورانية رجالها وأهلها هم باعثو النهضات ومخلصو الأمم من ورطاتها التاريخية. نحتاج إلى "من"، إلى مجدد يربطنا برباط روحي فيشد بعضُنا بعضًا. ولست أقصد شكليات الطريق ومراسم التفقر، نحتاج إلى قيادة ربانية توحد هذه الأجيال على غاية ومثل أعلى وتنفخ فيها حب التطلع لتحقيقه، نحتاج إلى من يتجاوز بنا ويرقينا إلى مستوى التهمم بحق بقضايا بلدنا المهيض. فكرة القيادة هذه وجدت قبولا لدى أجدادنا وساروا خلفها يشقون الطريق إلى الغاية من الدين والحياة، فأحرى لخلفهم الأشاوس أن يفيدوا منها ويسيروا على المنهاج. أولى بمثقفينا، وهاأنذا أدعوهم، أن يزيلوا عن أعينهم غماضات التعامي ليدلوا الجماهير على باب الخلاص ويبسطوا أمامهم آفاقا لانطلاقة الروح من جديد. وليت شعري كيف يتم ذلك إن لم يجدوا "من" يوحد فيهم الوجهة والنزعة والغاية بباعث من الضمير والوجدان؟ كيف؟؟ مثقفنا ولوع بالتحليل الاجتماعي والنقد الإسلامولوجي، قبلته دراسة النظريات الوافدة المستعارة بمفاهيمها الرنانة لا معرفة الحقائق الثابتة الموثقة التي أصبحت لديه عتيقة مملولة. لذا هو لا يمتلك قدما راسخة في الثقافة، فقد تجاوز واقعه فلا يدرسه ولا يستريح لتاريخه ومع ذلك يصر على تقديم الحل لمجتمعه الذي يرى ما حاق به من أحداث غيرت من حاله وذوقه العام للحياة، رسخ اليأس وفُُقد الأمل، كما ماتت أحاسيس البهجة والشعور بقيمة الحياة فأصبحت الكآبة حال الجماهير المقيم وهي على جمر الغضا تنتظر مخلصا منقذا. مثقفنا مولع بالتقليد لا يقوم لوحده، في المادة والمنهج معا،وهو الزعيم لغيره بالجد والاجتهاد فهو ضيق الثقافة محدود الدائرة قليل الإطلاع، سريع القراءة غير متمهل يسابق المقروء كأنه باحث عن ضالة فلا يغذي نفسه بعلم أو أدب، فظل ضعيف الملكة عاجزا عن الإحاطة بموضوعه لا يتضح له معنى في فكره، فأبطأ به ذلك عن نضج الملكات فتعقد أسلوبه حتى على نفسه ، فكيف ننتظر من مثقف هذا حاله أن يقدم لبلده وأمته خير ما تنتجه القرائح وتجود به الأذهان؟؟ ومع ذلك فحاله ناطق بأنه الضامن للنصر إن ركبنا مركبه والزعيم لنا أن الفتح رهين مفتاح يمسك به من دون الناس. كيف يعانق مثقفنا هموم بلده الصغير بحيث يستقيم تفكيره مع آمال ووحدة أمته الكبيرة؟ فكره التجزيئي الساعي لإبراز ذاته بالنقد المجرد الهدام وبتكريس التجزئة قصره عن رؤية الحل الإسلامي الجامع ففاته من الوعي ما لم يفت أجداده الأقدمين، وأنى لفكرة التجزئة أن تجد طريقها إلى النجاح وبلدُه والأمة جمعاء تشكو من رهق الفتنة والغثائية وأوهاق الوهن والانبطاح؟؟ نسأل مثقفينا بمن فيهم الإسلاميين: ماذا تقترحون؟؟ فنجد عندهم حيرة تفضحها الكلمات وتشي بها العبارات، يتحدثون عن التغيير والتجديد فإذا هو كلمات غير محددة المعنى ولا واضحة الدلالة، وكأن التغيير فضيلة في ذاته، وكأنه نزهة عاشق للكتابة، لكن من يحلل الواقع والتاريخ فيعرف ما يقتضيه الحال؟؟ من ينظر في التاريخ بمنهاج معصوم وبروية لا يستخفها التحليل الجدلي أو السلفي المتحمس فيقرأ في ضوءه المستقبل ليرسم الخطة بمعالم واضحة وصُوى على الطريق ترشدنا، لنكون على مستوى المواعدة مع ما يخبؤه لنا المستقبل؟؟ الخطاب الذي تستهلكه المجالس العلمية عندنا ودروس المساجد وندوات التراثيين الأمازيغ ودعايات من لا يزالون يصفون أنفسهم ب"التقدميين" لا تجدد لنا عهدا بماضينا بل تفصلنا عنه فتزيد من تمزيق وعينا وتشطير شخصيتنا، خطاب يربطنا بأصول غريبة عن شخصيتنا الأصيلة، خطاب لا يحمل معه الروح التي صنعت الريفي في ماضيه، بل ربما تنكر لها أو سعى جهده لنسخها فينا. وهي هي روح الإسلام الأصيلة. والذي يجدد لنا هذه الروح شخص غير الفقيه العالم أو الصوفي المجرد أو المثقف المناضل، بل هو إنسان جمع فقه العالم وتجرد الصوفي وثقافة العصر إلى صفاء النفس وقوة الحس ودقة التمييز وروح التجديد وهمة لا تعرف حدودا، شخص ذو مزاج من طراز خاص هو من الناس ولا يشبه الناس، شخص هو صاحب رسالة استوعب قواعد العلم وقوانين السلوك لكن لا تقيده عن المضي إلى الغاية من رسالته، بل يتجاوزها وينظر إليها من الأعالي ويوجهها التوجيه اللائق بحسب العصر وطبيعته كي يتحرر الناس ويتغيروا. ولن يكون من هذه صفاته إلا الداعي على بصيرة من ربه التابع للنبي الرسول. فهو على بصيرة وعلى نور من ربه يتحرك ويسعى بين الناس بسلوكه التجديدي الجامع. وهكذا كان ينظر أهالينا إلى من يلتفون حولهم فكان لهم شأن في التاريخ ومجد. وبعد، فماذا أطلب من مثقفينا وهم قلما يلتفتون لماضيهم بل يستسهلون الهروب إلى أمام باسم الحداثة والتقدمية وتجاوز آفات الماضي المقرون عندهم بالتخلف والتأخر؟؟ ماذا أطلب من إسلاميينا المتحمسين وهم يدعون بدعوتنا: قال الله وقال رسول الله؟؟ ماذا أطلب من تراثيينا من بني أمي وأبي الأمازيغ يدعون بدعوى الجاهلية بين أظهر المسلمين؟؟ نحن إنما نذكر بتاريخنا لنقف على لبه ومغزاه، على سر حركته المفضية للتقدم والقوة، لنتعرف المنهاج الكفيل بإخراجنا من قمقم ما نحن رازحون تحته. وأي منهاج؟؟ المنهاج الذي سلكه أجدادنا الأولون وجانبه المتأخرون منهم وجدده الأمير الخطابي وأضاعه خلفه من بعده. وأول الطريق على المنهاج ظهور رجل داعي يقول ربي الله كما كان صالح وبنوه من بعده ومجدد منهاجهم الخطابي، رجل يقوم حوله إجماع عاطفي، تتعلق به القلوب كما تعلقت القبائل بآل إدريس وتستمد منه إيمانا يمنحها قوة ويبعث رجولتها من خمود. رجل مجدد يسلك بالناس منهاج الإسلام في التغيير كما سلكه أجداده، وهذه فكرة ثقيلة على نفس المثقف أن يقبلها لأنها في آخر المطاف تسليم يلغي الأنانية والذاتية، ويضع المثقف تحت ما يقضي به توجيه المجدد الرباني، ولست أقصد كهنوتية ولا عبادة للبشر. بيد أننا نعرف من تاريخ العلوم والأفكار والدعوات في تاريخ المسلمين أنه ما انبعث مجتمع ولا تجدد فكر وأسلوب حياة إلا مع ظهور المجددين الربانيين. لنختم ختام مسك بقوله تعالى على لسان المومنين المستضعفين الذين ﴿ يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا﴾ .. وحالنا حال المستضعفين، ففي حاجة نحن إلى ولي نصير على يديه يأتي تحررنا وخلاصنا. وما جهود المثقفين بالتي تضع حدا لمأساة بلدنا إن لم تَسْتَهْدِ بالمجدد المطلوب وتُوَالِهِ وتسِرْ على منهاجه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [1] البكري ص91. [2] الريف قبل الحماية، هوامش الفصل الأول. ص68. [3] ص92. [4] ص97. [5] العروي ج1ص182. [6] معلمة التصوف الإسلامي ج 2ص6. [7] ص94. [8] البكري 96-97. [9] شيوخ العصر بالأندلس لحسين مؤنس، ص17. [10] البيان المُغرب ص236. [11] البيان المغرب، ص237. [12] عن الريف قبل الحماية للدكتور الطيبي بتصرف ص34. [13] عن عبد الله كنون من مشاهير رجال المغرب ج5. ص7. بقلم: ذ. عبد الكريم السكاكي