بلاغ العدالة والتنمية، الذي صدر أمس عقب اجتماع الأمانة العامة للحزب، يخفي ويضمر أكثر ما أفصح عنه بخصوص قرار جلالة الملك تعيين شخصية سياسية أخرى من داخل البيجيدي لرئاسة الحكومة، بعد فشل بنكيران في المهمة التي كلف بها يوم 10 اكتوبر 2016. فباستثناء الفقرة الثانية، التي تحدثت عن "تقدير" الأمين العام للحزب لقرار جلالة الملك "باعتباره يدخل في نطاق صلاحياته الدستورية"، فإن باقي الفقرات عبرت عن مواقف تكشف أن الحزب يراوح مكانه، وأن لا شيء تغير بعد بلاغ الديوان الملكي، من خلال إصرار إخوان بنكيران على أن هذا الأخير لم تكن له يد في إفشال محادثات تشكيل الحكومة وأنه "لا يتحمل بأي وجه من الأوجه مسؤولية التأخر في تشكيلها"، وأن الأطراف الأخرى هي المسؤولة عن ذلك من خلال ما سماه البلاغ "الاشتراطات المتلاحقة خلال المراحل المختلفة من المشاورات من قبل أطراف حزبية أخرى".
أكثر من هذا، فإن بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، وفي تطبيق حرفي وميكانيكي للحديث النبوي : "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"، أسهب في الثناء على الأمين العام للحزب وذِكر مناقبه وخصاله وما أسداه للحزب والاعتزاز "بقيادته للحزب بكل كفاءة واقتدار.. وبنضاليته المشهودة في الدفاع عن المسار الديمقراطي والفئات المستضعفة وجرأته في إقرار الإصلاحات الكبرى من منطلق اعتبار المصلحة الوطنية قبل المصلحة الحزبية الضيقة.."
وفي تعبير مكشوف عن أن الحزب سيواصل نهج سياسة التصعيد وتغليب منطلق اعتبار المصلحة الحزبية الضيقة قبل المصلحة الوطنية، عكس ما جاء في البلاغ، أصرت الأمانة العامة على التأكيد مسبقا على تعذر تشكيل الحكومة "أيا كان رئيس الحكومة المعين"، وهو ما يعني أن الإخوان في العدالة والتنمية سيستمرون في نهج نفس السياسة التي اتبعها بنكيران والتي أوصلته إلى الباب المسدود وأنهم لن يتنازلوا عن مواقفهم المتصلبة واشتراطاتهم التي لن تزيد الوضع إلا تأزما..
كما أن بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، ينم عن قلة أدب وعن وقاحة ما بعدها وقاحة وقلة الاحترام الواجب لجلالة الملك، الذي حرص على تجاوز وضعية الجمود الحالية، وقرر بمقتضى الصلاحيات الدستورية لجلالته، بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، تعيين كرئيس حكومة جديد، شخصية سياسية أخرى من حزب العدالة والتنمية..
وبدل تثمين ما جاء في بلاغ الديوان الملكي، كما فعل بنكيران من خلال تقديره لقرار جلالة الملك "باعتباره يدخل في نطاق صلاحياته الدستورية"، فضل أعضاء الأمانة العامة للحزب الهروب إلى الأمام من خلال استعمال مصطلح "اعتزاز" بدل "تقدير" أو "تثمين"، وهو ما ينم عن تنصلهم من مسؤولية إفشال مشاورات تشكيل الحكومة..
ولم ير إخوان بنكيران في بلاغ الديوان الملكي، إلا ما يخدمهم إذ أنهم ركزوا على ما ورد فيه من إشادة جلالة الملك بخصال "الأخ الأمين العام وبروح المسؤولية العالية والوطنية الصادقة"، و"اعتزازهم " بحرص جلالة الملك على "توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها بلادنا في هذا المجال، واختياره الاستمرار في تفعيل مقتضياته المتعلقة بتشكيل الحكومة من خلال تكليف شخصية من حزبنا بصفته الحزب المتصدر للانتخابات وترجيحه هذا الاختيار على" الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور"؛
ولم يول بلاغ العدالة والتنمية أي اهتمام لما جاء في بلاغ الديوان الملكي حول حث جلالة الملك "رئيس الحكومة المعين، عدة مرات، على تسريع تكوين الحكومة الجديدة" وأخذ جلالته علما بأن المشاورات التي قام بها رئيس الحكومة المعين، لمدة تجاوزت الخمسة أشهر، لم تسفر إلى حد اليوم، عن تشكيل أغلبية حكومية، إضافة إلى انعدام مؤشرات توحي بقرب تشكيلها"، وهي إشارات كلها تكشف عن فشل بنكيران في المهمة التي كلف بها..
وفي المقابل، فإن بلاغ الأمانة العامة للعدالة والتنمية استعمل كلمات "تأكيد" عدة مرات أو ما يفيد معانيها، لقطع الشك باليقين للتعبير عن قناعة مفادها أن لا شيء سيتغير وأنهم سيواصلون نفس السياسة التي سار عليها كبيرهم؛ أكثر من ذلك فإن إخوان بنكيران استعملوا كلمة "وجوب" التي تفيد الأمر وذلك من خلال تجديدهم التأكيد على أن "المشاورات القادمة وجب أن تراعي المقتضيات الدستورية والاختيار الديمقراطي والإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال الانتخابات التشريعية وأن تحظى الحكومة المنبثقة عنها بثقة ودعم جلالة الملك."
هو بلاغ واضح، وإن كان مغلفا بعبارات تروم المراوغة والتنصل من مسؤولية الفشل في تشكيل الحكومة، كما أنه بلاغ يكشف أن لا جديد في الأفق، رغم تغيير بنكيران بشخص آخر من حزب العدالة والتنمية، إذ أن ما يريد الإخوان قوله من خلال بلاغهم هذا، ومن خلال قرارهم دعوة "المجلس الوطني للحزب للانعقاد في دورة استثنائية يوم السبت 18 مارس الجاري، من أجل مدارسة المعطيات الجديدة واتخاذ القرار المناسب"، حسب ما جاء في البلاغ، هو أن البلوكاج باق وأن مصلحة الوطن التي يتبجحون بها هي آخر ما يفكرون فيه وان المصلحة الحزبية الضيقة هي سيدة الموقف عندهم، وبالتالي فإن جلالة الملك ليس أمامه سوى المرور إلى الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور، وذلك تجسيدا لإرادته الصادقة وحرصه الدائم على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها بلادنا في هذا المجال.
للإشارة فإن بنكيران، وكعادته في المراوغة والتمويه، لم يوقع باسمه بلاغ الأمانة العامة لحزبه أمس الخميس، رغم أنه كان حاضرا في الاجتماع وأدلى بتصريح صحفي عقب انتهائه، أعلن من خلاله بعض ما راج داخل الاجتماع، حيث ترك مهمة التوقيع لنائبه عبد العزيز السليماني، حتى يخلي مسؤوليته مما جاء في البلاغ من قلة أدب واحترام و"ضربات تحت الحزام".