كان خروج المغرب من منظمة الوحدة الافريقية عام 1984 تتويجا لخساراته الدبلوماسية في افريقيا امام قوة الهجوم السياسي والدبلوماسي المدعوم بحرب عصابات حقيقية ضده، وخاصة في أقاليمه الجنوبية، تحت إمرة القيادة السياسية الجزائرية التي تبنت المشروع الانفصالي وبناء دولة قزمية تابعة لها بعد فشل مشروع اسبانيا في فرض ذلك على المغرب. ويبدو ان اطروحة الانفصال لم تحصل على الأغلبية داخل المنظمة الا انطلاقا من فرضيتين خاطئتين تماماً وهما:
اولا، الفرضية القائمة على ان قبول المغرب لمبدأ تقرير المصير في الصحراء المغربية في مؤتمر نيروبي عام 1981 يعني استعداده للتخلي عن أقاليمه الجنوبية، وان مسلسل الضغوط السياسية والدبلوماسية والعسكرية التي مورست عليه هي التي فرضت عليه هذا القبول، ويمكن بالتالي، رفع مستوى الضغط وتعميمه على الساحة الإفريقية ليتم فرض تراجع المغرب عن سيادته على أقاليمه الجنوبية في نهاية المطاف.
ثانيا، اعتقاد عدد هام من الدول الافريقية ان استراتيجية الجزائر الراعية للمشروع الانفصالي هي المنتصرة لا محالة، وإلا ما معنى ان تدفع باتجاه اعلان دولة صحراوية من جانب واحد، اذا لم تكن ضامنة لنجاح مشروعها في الصحراء المغربية؟ وليس السهر على هذه الدولة على مختلف المستويات التنظيمية والمالية والعسكرية، وتسويقها في مختلف المحافل الدولية غير كونها بمثابة الأمر الواقع الذي سيعترف المغرب به عاجلا او آجلا ولو عن طريق الإكراه.
وقد كان ممكنا ان يتجاهل المغرب القارة الافريقية تماماً بعد اضطراره الى مغادرة منظمة الوحدة الافريقية، غير انه لم يفعل، كما اكد على ذلك خطاب المغادرة الذي ألقاه الملك الراحل الحسن الثاني والذي أعادت رسالة الملك محمد السادس الى قمة الاتحاد الافريقي في كيغالي التذكير بهذه الفكرية الجوهرية فيه بعد ثلاثة عقود ونيف.
وبالفعل، فسلوك المغرب السياسي والدبلوماسي تجاه افريقيا، بعد حدث الانسحاب التاريخي من منظمة الوحدة الافريقية، كان واقعيا وعقلانيا لتقديره ان ربح المعركة على مستوى القارة ليس ممكنا دون تجاوز كل سلوك سياسي او دبلوماسي متشنج تجاه دول القارة، ومن خلال البرهنة على نوع متميز من التعاطي مع القضايا الافريقية يفند كل مزاعم الخصوم الذين صوروا المغرب، زورا وبهتانا، كما لو كان معاديا لقضايا افريقيا او ان لديه مطامع امبراطورية توسعية الى غير ذلك من افتراءات القيادة الجزائرية التي كانت تجد لها صدى في بعض الأوساط الافريقية.
فقد احتفظ الملك الراحل بمستوى معقول من العلاقات مع القارة الافريقية رغم شعوره بانه ضحية طعن في الظهر من قبل الكثيرين، غير انه ارتأى ان افريقيا اكبر بكثير من المنظمة التي تتحدث باسمها، خاصة بعد ان أصبحت مؤسسة تمرر منها القيادة الجزائرية مخططاتها الهيمنية، على قاعدة مناهضة المغرب على كل المستويات، وأساسا محاولة تقويض وحدته الوطنية والترابية، سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا، عبر دعم وتوجيه عصابات البوليساريو وتمكينها من بنك أهداف في المغرب مع توفيرالملاذ الآمن لها في معسكراتها في تيندوف، دون مراعاة لمقتضيات القانون الدولي ولا لعلاقات الجوار والتاريخ النضالي المشترك للشعبين المغربي والجزائري.
وقد تطورت استراتيجية المغرب الافريقية بشكل جذري ملحوظ في عهد الملك محمد السادس الذي انطلق من ثوابت المغرب الافريقية، فقرر بلورة تصور للعمل ينطلق من توسيع دائرة المشترك الافريقي، ومحاولة معالجة قضايا الخلاف بالمرونة السياسية والدبلوماسية انطلاقا من قاعدة التمييز بين ما هو مطروح للإنجاز، وما يمكن تأجيله، مع العمل على توفير الظروف الملائمة لذلك، اضافة الى اتباع منهجية دقيقة في تحديد ما هو أساسي وما هو ثانوي لأن الخلط بينهما يربك كل تاكتيك سياسي عند التنفيذ ولو بدا منسجما ومتسقا منطقيا.
وعلى أساس هذا التصور العام، وضع المغرب نصب عينه تدشين معركة استعادة زمام المبادرة في مواجهة السياسة الجزائرية المتغولة في ابعادها الهيمنية. ولقد اختار لهذه الاستراتيجية مستويات عدة عمل عليها في مختلف تحركاته الافريقية والإفريقية – الدولية حيث تصرف باعتباره الصوت الافريقي القوي في الدفاع عن القضايا العادلة لأفريقيا في مواجهة سلوكين كانت الغلبة لهما خلال فترة هامة من التعامل مع القارة.
اولا، سلوك يعتبرها مجرد قارة متخلفة لا مستقبل لها، خارج الخضوع لأجندات بعض الدول الغربية التي كانت مستعمرة لبلدانها، وبالتالي، فإن تلك الدول تحاول تقديم صورة حول افريقيا فقيرة وربما لا أمل امامها في التطور المستقل، كما انها بأمس الحاجة الى الدول الغربية لتقدم لها مساعدات مشروطة بمواقف سياسية حتى يمكن لها ان تستمر بالحد الأدنى من الاستقرار في ظل التبعية المطلقة لها علميا وتكنولوجيا وسياسيا وعسكريا.
ثانيا سلوك هيمني افريقي، هذه المرة، لعبت فيه القيادة الجزائرية دورا بارزا مستغلة حاجة عدد من الدول الافريقية الى المساعدات المادية او غيرها، حيث كانت تربط تقديم تلك المساعدات باتخاذ مواقف موالية لها في كل القضايا المطروحة على المنتظم الافريقي حيث شكل النزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية محور تلك الشروط.
وقد واجه المغرب السلوك الأول ببناء علاقات متكافئة مع مختلف البلدان الافريقية على قاعدة التوجه الاستراتيجي للمغرب جنوب جنوب وعلى أنقاض سياسات المساعدات المشروطة التي تتبعها بعض الدول تجاه بلدان القارة. كما ان المغرب ابرز، على عكس ما كانت تروجه البروباغندا الغربية ان افريقيا هي قارة المستقبل الحقيقي وليست قارة منسية كما يراد تصويرها والتعامل معها كما لو انها دون البلدان الاخرى.
وكان لهذه السياسة صداها وانعكاسها الايجابي على تطور العلاقات المغربية الافريقية مما كان له اثر ايجابي في اعادة تقييم تلك الدول لطبيعة علاقاتها مع العالم، بما في ذلك داخل القارة الافريقية، حيث تم رفع تعاطي المغرب معها الى مستوى النموذج الذي يحتذى في مجال الاحترام المتبادل واعتماد سياسات توازن المصالح وتكامل الأدوار خاصة في مواجهة تحديات التنمية والإصلاح السياسي والتعاطي مع انتشار التطرف والارهاب المتنامي والذي يهدد استقرار تلك البلدان وينبغي عليه بالتالي العمل سوية على محاربة هذه الآفة الخطيرة.
هذا في حين اعتمد المغرب من اجل تفنيد كل دعاوى السلوك الثاني ممثلا في السلوك الهيمني الجزائري حقائق التاريخ خاصة أبعاد الرصيد الثقافي والحضاري والروحي المشترك بين المغرب وإفريقيا ودحض اتهامات التوجه الإمبراطوري للمغرب وإبراز البعد القانوني الشرعي لحقه غير القابل للتصرف في حماية وحدته الترابية واستكمالها وان تقرير المصير هو بمثابة الحق الذي يراد به باطل لأن المسألة في الأصل هي مسألة استكمال المغرب لوحدته الترابية واستعادة أقاليمه الخاضعة للاستعمار الأجنبي.
وخلاصة القول ان المغرب قد استطاع من خلال استراتيجيته المتكاملة تجاه افريقيا تحقيق غايات أساسية أهمها:
اولا، عودة الامور الى نصابها على أساس ان الانتماء الافريقي للمغرب ينبغي ان يكون معترفا به في مختلف المحافل الافريقية والدولية وللاتحاد الافريقي دور هام في هذا خاصة انه تحول في السنوات الأخيرة الى رأس حربة الاستراتيجية الجزائرية في مناهضة المغرب في ملف النزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية
ثانيا، تعزيز مكانة المغرب المتنامية في افريقيا وتقليص مجالات تأثير سياسات واستراتيجيات القوى المناوئة له على مستوى حقوقه المشروعة كما على مستوى سيادته على كامل مناطقه وآقاليمه كبلد افريقي مستقل.
ثالثا، حرمان الجزائر وداعميها من منبر احتكروه لأكثر من ثلاثة عقود حيث غاب الصوت المغربي ماديا حتى مع افتراض حضوره المعنوي الدائم من خلال أصدقائه داخل الاتحاد الذين الذين كانوا أوفياء لعدد من المباديء المؤسسة للمؤسسة الافريقية ومقتضيات القانون الدولي والذين كان يفرض عليهم الانحناء من حين لآخر حتى تهدأ عاصفة العداء لمصالح المغرب دون الانجرار الى مساندة السياسات التي تتمحور حولها تلك العاصفة.
رابعا، القطع مع الصورة التي حاولت الجزائر ترويجها عن وضع المغرب داخل افريقيا حيث زعمت في دعايتها ان بقاءه خارج الاتحاد الافريقي يعني عزلته داخل بيئته الاولى مما يشكل ادانة مزعومة لسياساته الخاطئة تجاه البلدان الافريقية كما يتم الادعاء عادة. وبطبيعة الحال، فإن الترويج لهذه الادعاءات قد خلف آثارا سلبية على الدبلوماسية المغربية. ومن هذا المنظور فان ركنا من أركان الدعاية الجزائرية قد سقط تماماً بقرار العودة في مناخ سياسي واستراتيجي ملائم
خامسا التأكيد على ان المغرب أعطى دول الاتحاد الأفريقي فرصة غير مسبوقة لمساعدتها على تصحيح خطإ منظمة الوحدة الافريقية تجاه المغرب أحد مؤسسي المنظمة القارية الافريقية وتجاه القارة ذاتها. اذ لم يعد خافيا على احد ان المنظمة قد اقترفت جريمة حقيقية تجاه مبادئها وروح ميثاقها والوظيفة الأساسية التي أنشئت من أجلها
هذا لا يعني ان المغرب قد وصل الى نهاية مطاف معركته الوطنية في افريقيا وانما هو دليل قاطع على ان شوطا نوعيا من هذه المعركة التاريخية قد تم إنجازه وان مهمة استكمالها تقتضي التوجه الى بعض الدول التي لم تنحز بشكل كامل الى جانب الحق المغربي لإقناعها بذلك خلال المرحلة المقبلة.
ذلك ان تردد بعض الدول في اتخاذ موقف حاسم تجاه دولة البوليساريو يعود الى عدم قدرتها على تحمل ردة فعل الجزائروجنوب افريقيا خاصة تلك الدول التي تربطها علاقات اقتصادية كبيرة بالجزائر او الدول المؤيدة لها في افريقيا. وهذا ما يفسر عدم رفضها من حيث المبدأ لعودة المغرب الى هذا المنتظم الأفريقي، لكنها لم تستطع بعد الذهاب بهذا الموقف الى حدوده الطبيعية وهي التخلي عن دولة الوهم باعتباره مكملا عمليا لموقف القبول.
وهناك دول ربما اعتقدت ان اعلان المغرب الرغبة في العمل داخل الاتحاد الأفريقي يعني استعداده للعمل داخل إطار يتواجد فيه جنبا الى جنب مع كيان وهمي كان السبب في مغادرة منظمة الوحدة الافريقية. وعلى الرغم من السذاجة القصوى التي يتضمنها مثل هذا الموقف فليس مستبعدا ذلك بشكل مطلق خاصة ان الجزائر سوقت لفكرة ظلت ترددها وتعمل من اجل ترسيخها في أذهان كل من تخاطبهم ان المغرب لن يستطيع الصمود على موقفه من صحرائه الى ما لا نهاية. وبالتالي، فان مواصلة الضغط عليه افريقيا ودوليا سينتهي به الى الاستسلام كما أسلفنا.
قد يرى البعض في موقف المغرب من التحرك ضمن مكونات الاتحاد الافريقي تراجعا ملموسا وكبيرا عن استراتيجيته التي عبر عنها الانسحاب من المنظمة الافريقية وهي التي عادة ما تسمى سياسة الكرسي الشاغر لتفادي احراجات المواجهات السياسية وتبعات المجابهات الدبلوماسية. غير ان الواقع الملموس لممارسة المغرب وتدبيره لملف النزاع الاقليمي المفتعل حول الصحراء يؤكد تماماً انه لم يتخل عن استراتيجيته الاساسية وانما قد جزأها الى مراحل متواصلة يرتبط بعضها بالبعض الآخر ويتضافر كل مستوى من مستوياتها بالمستويات الاخرى
وهذا يعني ان قراءة المغرب لمجمل تطورات القضية خلال السنوات الاخيرة قد دفع به الى التعامل معها وفق نظرة المعارك المتضافرة من خلال التركيز على الحلقات الضعيفة في سلسلة السياسة الهيمنية الجزائرية ولا سيما في موضوع الصحراء المغربية. ومن هذا المنظور فإن ربح معركة احتلال مقعد داخل الاتحاد الافريقي هو قاعدة لدحر المشروع الانفصالي وطرده من الاتحاد.