فضح فريق من الباحثين اليابانيين والمغاربة، ما يجري داخل مخيمات تندوف على الأراضي الجزائرية وما يتعرض له المحتجزون من قمع وتجويع داخل المخيمات، بالإضافة إلى الوضع الأمني. ونشر الباحثون منتصف الشهر الماضي مضامين دراستهم الصادرة عن دار النشر نيبون هيرون في كتاب تحت عنوان «ماوراء الستار: دراسة استكشافية لمخيمات تندوف من الداخل»، حول قضايا تتعلق بالوضع القانوني للاجئين الصحراويين بمخيمات تندوف، وموقف القانون الدولي من عمليات نهب المساعدات الدولية الموجهة لساكنة المخيمات، ثم التطور العام الذي تشهده حركة البوليساريو الانفصالية سواء على مستوى بناء إيديولوجيتها، أو على مستوى هيكلتها التنظيمية المتسمة ببعد قبلي واضح.
وفي الشق الجيوستراتيجي والأمني، تناولت الدراسة في مستوى أول مختلف التقارير والوقائع التي تنسب لأعضاء جبهة البوليساريو، تورطهم في ربط علاقات مع تنظيمات إرهابية محسوبة على تنظيم القاعدة، كما تناولت في مستوى ثاني، الموقع الجيوستراتيجي الحساس لمخيمات تندوف كنقطة تقاطع مؤثرة على تشويش علاقات التعاون الأمني بين دول المنطقة. وختمت الدراسة ببحث ميداني عن الصحراويين العائدين للمغرب.
على المستوى القانوني وقفت الدراسة على مفارقة الوضع في مخيمات تندوف، التي يحاول البوليساريو تقديمها ككتلة بشرية ضحية، بينما يتم ممارسة عملية ضبط قسري لحرية التنقل داخل المخيمات وفق منظومة شبه عسكرية يحد فيها البوليساريو برعاية الدولة المضيفة من حريات الصحراويين، الذين يعيشون داخلها. وهو الواقع الذين تكشف عنه الدراسة بعرض تجارب الصحراويين الذين تم نقلهم بالقوة من بلدهم الأصلي، ثم وضعهم في مخيمات عسكرية في بلد «الاستقبال».
وتستنج الدراسة أن اللاجئين الصحراويين لا يتمتعون بحقوقهم الأكثر إنسانية باعتبارهم لاجئين، خاصة حرية التعبير والتجمع والتنقل، وحرية اللاجئ في أن يبقى على تواصل مباشر مع ممثل عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أو مع ممثلي المنظمات عن غير الحكومية الأجنبية بدون تواجد عناصر «البوليساريو».
كما تقف الدراسة على تشخيص حالات تعرض اللاجئين الصحراويين لكل أشكال الابتزاز والتخويف، والتي تتجسد في جانب منها في فصل العائلات، والتجنيد القسري للشباب وحتى الأطفال في الجيش، والعمل القسري والاستغلال الجنسي للأطفال الذين يتم إرسالهم لكوبا.
ومن أوجه هذه المعاناة أيضا منع الصحراويين من مغادرة المخيمات، فضلا عن الاحتفاظ بالقوة بأي فرد من أي أسرة في المخيمات، إذا قرر التوجه إلى الصحراء في إطار عملية تبادل الزيارات المنظمة من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، علاوة على ممارسات مشينة أخرى كالعبودية التي تعتبر جريمة ضد الإنسانية.
ويشير الفصل الأول كذلك إلى منع اللاجئين الصحراويين من الاستفادة من مساعدات المجموعة الدولية، حيث يتم تحويلها من قبل العناصر المسلحة ل«البوليساريو». وتستنتج الدراسة أن الدولة المضيفة، بدل من أن تصحح الوضع وفق ما يفرضه عليها القانون الدولي بما يشمل حماية اللاجئين وتأمين حقوقهم، فإنها لجأت إلى رفض إحصاء اللاجئين المتواجدين على أراضيها.
ولا يخفي الفصل مسؤولية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تفاقم هذا الوضع. انطلاقا من مسلمة أن المفوضية أنشئت من ضمان الحماية للاجئين أينما وجدوا في مختلف أرجاء العالم، مما يفرض عليها تستنتج الدراسة تحمل مسؤولياتها، بالضغط على الدولة المضيفة الجزائر من أجل تطبيق القواعد المعمول بها، ولاسيما تلك التي تقتضي القيام بمراقبة مباشرة من طرف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بنفسها على مخيمات تندوف، وإبعاد كل شخص لا تتوفر فيه صفة لاجئ عن المخيمات، والولوج بكل حرية وبدون عراقيل للاجئين.
ويركز الفصل الثاني على حكم القانون الدولي فيما أوردته عشرات التقارير الرسمية وشبه الرسمية عن وجود سرقات وتحويلات للمساعدات الإنسانية الموجهة للمخيمات إلى غير وجهتها.
وبعد افتحاص الدراسة لطبيعة المواد المهربة مثل الأدوية والمواد الغذائية، ترى أن مثل هذه السلوكات المنافية للقانون الإنساني وللقانون الدولي تفرض تحريك مقتضيات مسودة مشروع قانون مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليا ضد البوليساريو وضد الدول المضيفة، على اعتبار فعل منع الغذاء والدواء من شأنهما أن تدخلا ضمن الجنح الكبرى والجرائم الموجهة ضد الإنسانية، ومشروع إبادة إذا ما ثبت أن الفعل هو مقصود وممنهج، كما تعرف ذلك المحكمة الجنائية الدولية.
وتحلل الدراسة كيف ركزت التشريعات الدولية على مسؤولية الدولة المضيفة تجاه أي فعل إجرامي على أراضيها، حيث تكون مسؤولة عن أي فعل مشين وغير قانوني، فبالأحرى أن يثبت تواطؤها في تسهيل هذا العمل الإجرامي، أو التستر عليه. وعلى اعتبار البوليساريو منظمة ذاتية لا تملك أي مقومات في عرف القانون الدولي، فإن كل اللوم ينسحب وفق قانون مسؤولية الدول على الجزائر، تخلص الدراسة.
وما لم تلتزم الجزائر بمقتضيات التشريعات الدولية والبروتوكولات المنظمة للقانون الإنساني، وإذا لم ينجح المجتمع الدولي في تصحيح هذا الوضع عبر القيام بعملية ترشيد ومراجعة للمساعدات الموجهة لسكان المخيمات، فإن المانحين للمساعدات يصبحون طرفا أيضا في التحريض على خرق مقتضيات التشريعات الدولية.
وافتحص الباحثون عددا من التقارير الرسمية والاستخباراتية والبحوث والمراسلات والدراسات المتعلقة باحتمالات وجود تقاطعات بين مقاتلي جبهة البوليساريو والجماعات الإرهابية النشطة على الشريط الممتد من منطقة فزان (في الجنوب الغربي من ليبيا) إلى الساحل.
واعتبرت الدراسة أن شهادات بعض قادة القاعدة أنفسهم باستقطاب القاعدة لمقاتلي جبهة لبوليساريو، يستحق التعامل معها تعاملا جديا ليس على مستوى التشهير الإعلامي، وإنما على المستوى الاستراتيجي والدولي المتعلق بمكافحة الإرهاب، وتجفيف منابعه.
إذ تكشف الدراسة لأول مرة عن مقالة للجهادي أبي سعد العاملي «قاعدة بلاد المغرب الإسلامي – حقائق الواقع ووعود المستقبل-» الصادرة عن مؤسسة المأسدة الإعلامية (الجهادية)، والتي يقر فيها المنظرالجهادي كيف: «كان للحركة الإسلامية في مخيمات اللاجئين دور بارز في إحداث نقلة في أفكار العديد من المقاتلين الصحراويين الشباب وعقائدهم ووعيهم السياسي»، ليعتبرها «جبهة جديدة ونقطة قوة أخرى تضاف إلى جيوب المجاهدين، لاشك أنها ستعزز صفوف القاعدة وستلعب دوراً مهماً في المنطقة من أجل تحرير الأراضي الإسلامية وتنصيب مواقع أقدام للمجاهدين تكون بمثابة النواة الأولى لدولة الخلافة القادمة».
وتستفيض الدراسة في تحليل السياقات العامة التي تحدث فيها العاملي عن اختراقات القاعدة لمخيمات تندوف، ضمن خطة محكمة لتحويلها لبؤرة خلافة إسلامية.
ولتمثل خطورة هذا القيادي في تنظيم القاعدة، تشرح الدراسة كيف أن «العاملي» يعتبر واحدا من أنشط المنظرين للحركات الجهادية لفترة ما بعد مقتل أسامة بن لادن، علاوة على دوره التحريضي-التوجيهي لفترة ما بعد «الربيع العربي»، بل واعتباره من أوائل أعضاء القاعدة الحركيين الذين مهدوا للرحيل من القاعدة نحو تنظيم الدولة الإسلامية، قد كتب الرجل «أضواء وبيانات شرعية حول الثورتين الليبية والسورية»، و«تحذيرات ونصائح أمين لأهل السنة في البحرين»، و«دور الأنصار والمجاهدين في ثبات دولة العراق الإسلامية وبقائها»، قبل أن يخلص إلى الحديث علنا عن ولائه ودعمه لمشروع البغدادي كما يشير كتابه الجديد «في سبيل ثبات الدولة الإسلامية وبقائها».
فبعد مقتل أسامة بن لادن، تولى العاملي رفقة آخرين من الجيل الثاني للجهاديين التنظير لمرحلة ما بعد التنظيم المركزي، والعمل على هندسة مسار تنظيمي وتربوي جديد، فكتب «القاعدة ما بعد أسامة ستظل بأمر الله قائمة»، و«وقفات تربوية مع الحرب الصليبية الجديدة» و«واقع ودور الإعلام الجهادي»، و«الديمقراطية؛ وسيلة لاحتواء التيار الإسلامي».
المعطيات التي جاء بها العاملي حسب الدراسة عن اختراف مخيمات تندوف تتقاطع مع تخمينات واستنتاجات وتحذيرات، سبق أن نشرتها مراكز علمية ووكالات استخباراتية عالمية مرموقة بما في ذلك تقرير وكالة استخبارات الأمن العام اليابانية التابعة لوزارة العدل خلال أعوام 2011، و 2013، ثم 2014 الذي يضع تندوف ضمن المناطق غير الآمنة والخطرة بعد عدد من الاختطافات التي حدثت بتندوف خاصة اختطاف عاملين أجانب في منظمات إنسانية .
وتعود الدراسة إلى عرض تطورات تاريخ العنف السياسي الذي كانت تنتهجه البوليساريو منذ السبعينيات، حيث سبق لها أن اختطفت عددا من البحارة الإسبان وقتل فرنسيين اثنين واختطاف ستة آخرين عام 1977. ثم بعد حوالي عشر سنوات (1988) تكرر الجبهة أعمال العنف بإسقاط طائرة أمريكية و أخرى كندية أسفرت عن مقتل العديد من الركاب، لتعتذر الجبهة فيما بعد على اعتبار الطائرتين كانت هدفا بالخطأ. وهو نفس ما قد انتبه إليه الباحث الاستراتيجي الأمريكي أنتوني كوردسمان عام 2005 بدوره بتوصيف ميول البوليساريو المتطرفة، الموسومة بتبني العنف كآلية للتدبير السياسي. مصنفا الجبهة كواحدة من أبرز الحركات المتطرفة المؤمنة بالعنف.
وتخلص الدراسة إلى أنه بعد مرور حوالي عقدين من الزمن على هذه الوقائع، ودخول الجبهة في مفاوضات من أجل حل للنزاع مع المغرب تحت إشراف الأممالمتحدة، تعود الجبهة لعقيدة العنف كلما ضاقت بها القنوات الدبلوماسية لتهدد بالعودة إلى السلاح و العنف.
تلي هذه الدراسة، ورقة بحثية أخرى تستعرض الأبعاد الجيوستراتيجية والأمنية لهذا الواقع الأمني المتردي داخل و حول المخيمات، والذي يؤثر سلبا على كل جهود الاستقرار الإقليمي التي تقوم بها دول المغرب العربي والساحل. مذكرا، بأن من أخطر الآثار الجانبية لهذ التوتر هو انهيار التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة بين دول المنطقة.
الكتاب لا ينحصر على تحليل المنحى الأمني الخالص، بل يستعير مفهوم الأمن البشري لفحص شروط الاستقرار والأمن الداخلي داخل المخيمات، كاشفا عن الحالة المتردية لسكان المخيمات، والمعاناة الشديدة التي يعيش على إيقاعها صحراويو المخيمات.
ولم يغفل الباحثون المستوى الأنثروبولوجي، بحيث فككوا ميكانيزمات بناء إيديولوجية التأصيل الذي نهجه منظرو الجبهة من أجل بناء تاريخ وذاكرة مستقلتين لها، استعار فيها هؤلاء كثير من الوهم والتخيل والتأويل التعسفي للتاريخ لعل ذلك يسعفهم في بناء رواية للتاريخ خاصة مشروعهم الانفصالي.
لكن القبلية تعلو مهما حاولت الجبهة إخفاءها، لتكون إحدى أعمدة التدبير الداخلي لشئون توزيع الأدوار والسلطة داخل دواليب الجبهة. هذا ما تخلص إليه الدراسة بتحليل التركيب القبلي لمختلف المناصب والمهام التي اختلقتها الجبهة من أجل تشديد قبضة تحكمها على المخيمات، والسيطرة على الموارد المادية والرمزية.
في ختام الكتاب، خص الباحثون فصلا موسعا لعرض نتائج دراسة ميدانية تعتبر الأولى من نوعها، وتم إنجازها خلال الفترة مابين 2010– 2015 على عينة تمثيلية تتكون من 74 عائد. و شملت الدراسة عدة محاور أساسية، تتعلق بدراسة نماذج إنسانية من المجتمع الصحراوي للعائدين، لترصد من جهة حجم المعاناة النفسية التي رسختها إيديولوجية تغدية الكراهية و الحقد داخل المناهج الدراسية التي اعتمدها البوليساريو في بناء تنشئة اجتماعية مشوهة لأطفال المخيمات، كما رصدت الدراسة، بالاعتماد على عدد من الاختبارات النفسية، والاستمارات وجود حالات صدمية عنيفة يحملها أطفال كوبا –الأطفال الذين تم ترحيلهم نحو كوبا قسرا بهدف دراسة المذهبية الماركسية الشيوعية- وكذا وجود اختلالات في البناء الرمزي لمفهوم الفضاء المادي و الاجتماعي.
الدراسة تناولت أيضا في جلسات استماع متخصصة حالات صادمة لنساء صحراويات تعكس شراسة العنف الرمزي، والمادي الذي مارسته الآلة الإيديولوجية للبوليساريو تحت مبررات كثيرة: وتوصي الدراسة السلطات المغربية بضرورة خلق آلية للمتابعة و المرافقة النفسية الاجتماعية للعائدين، مع بناء استراتيجية أكثر قابلية على مساعدتهم في الاندماج الكامل داخل المجتمع.
وشارك في إعداد الدراسة فريق متمرس من الباحثين اليابانيين والمغاربة، يشتغلون في مجالات معرفية متنوعة بتنوع فصول الكتاب تشمل القانون الدولي والإنساني (عبد الحميد الوالي وماتسوموتو شوجي)، وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا (كي ناكاغاوا و خالد الشكراوي)، والعلاقات الدولية (رشيد الحديكي و عادل الموسوي)، وإدارة الأزمات (المصظفى الرزرازي)، وعلم النفس (عبد السلام الداشمي وزينب الوزاني الشهدي).