في طموحها لترسيخ وضعها كمدينة للأنوار، فضلا عن كونها عاصمة سياسية وادارية للمملكة، تواصل الرباط مسار تحولها من خلال انجاز منشآت ثقافية جديدة على غرار التدشين الملكي، اليوم الثلاثاء، لمتحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر.
التحول ملحوظ بمجرد الخطو الأول، فالزائر لا يمكن الا أن يسجل بانبهار اللمسات المعمارية المثيرة للانتباه والبنيات الاساسية الأخرى التي تضفي على الرباط وجها أكثر ترحيبا، انها مدينة تحقق لذة العيش وتستقبل اليوم أوراش كبرى لإعادة التأهيل الحضري، تستجيب لاستراتيجية ثقافية حقيقية في مستوى طموحات مدينة تهفو لأن تكون عاصمة ثقافية للمملكة.
إنه تحد قابل للادراك بالنظر الى الامكانيات التي تزخر بها المدينة، بدءا بتراثها الغني وحيويتها الثقافية والفنية، والمهرجانات والتظاهرات الثقافية الكثيرة التي تحتضنها، على غرار التظاهرة الضخمة "موازين" التي جعلت من الرباط "المكان الموعد". هي مزايا كانت وراء اختيارها عام 2003 عاصمة للثقافة العربية، قبل أن تظفر بمكانة في قائمة التراث العالمي للإنسانية منذ 2012، وذلك ضمن مجموعة محدودة من المدن عبر العالم، بوصفها "ذات قيمة كونية فريدة من نوعها".
وفضلا عن هذا الامتياز الكبير، انضافت بتعاقب السنوات منجزات غيرت كليا وجه المدينة، خصوصا في اطار الورش الكبير لإعادة تهيئة ضفة أبي رقراق. في هذا الموقع الرائع، وقريبا من المعالم الأثرية الأكثر رمزية للمدينة، سيعلو صرح مسرح كبير في غضون ما ينيف على ثلاث سنوات، إنه مسرح يثير الدهشة بفعل هندسته الفريدة المستوحاة من شكل الأمواج ، إذ يضم قاعة كبرى للعروض تسع أكثر من ألفي مقعد، وبهوا للمعارض ومدرج بسقف مفتوح تفوق طاقته الاستيعابية 7000 شخص، ومتحفا وطنيا للأركيولوجيا وعلوم الأرض وفضاءات حيوية أخرى.
هكذا تنضاف هذه الجوهرة المعمارية الى مؤسسات ثقافية أخرى تعزز الاشعاع الثقافي للعاصمة، على نحو متحف الفنون المعاصرة الذي دشنه اليوم الثلاثاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وهو معلمة صممت وفق تصور يجمع بين الثرات والمعاصرة، في أفق جعل الرباط مدينة للأنوار، حاضنة للإبداع والفن.
ويعكس انجاز هذا المشروع ارادة صاحب الجلالة لجعل الثقافة قاطرة حقيقية للتنمية البشرية، والاجتماعية والاقتصادية، وعزمه على تمكين البلاد من مؤسسات ثقافية تشجع الابداع وتتيح دمقرطة الولوج الى جميع أشكال الفن والثقافة.
بكلفة تناهز 200 مليون درهم، يعد متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، أول مؤسسة متحفية في المملكة تختص كليا بالفن الحديث والمعاصر، وفوق ذلك، تستجيب للمعايير المتحفية الدولية.
هذه الجوهرة المعمارية الواقعة في قلب الرباط تصبو لأن تكون فضاء للتبادل والتعريف بكبار مبدعي اليوم، ومكانا يجد فيه الجمهور بمختلف شرائحه مجالا للاستئناس بإبداعات فنانين معاصرين وواجهة يتملك المغاربة تاريخهم من خلالها.
وسيكون من مهام المتحف، الذي يشكل مرآة لحيوية وتطور بلد متعدد المكونات، منفتح ومتسامح، ربط الجسور مع المؤسسات والهيئات الأجنبية من أجل التموقع في كونية فنية تخدم مختلف شرائح الجمهور.
ثمة خاصية أخرى لهذه المعلمة، لم يصمم المتحف ليكون فضاء لحفظ الأعمال الفنية فقط. إنه يهدف الى تحسيس وتعريف مرتاديه بالابداع الفني المعاصر والمشاركة في الحياة الثقافية للبلاد بفضل ايجاد قنوات للتفاعل بين الجمهور والفنانين والانفتاح على عالم الابداع الدولي بمختلف تياراته.
كما ستقترح هذه المؤسسة دورات تكوينية وندوات مستهدفة لجمهور مهتم، وخصوصا لخريجي مدارس الهندسة المعمارية والفنون الجميلة والتاريخ والمهتمين بحفظ الأعمال الفنية.
انه الدليل على أن الثقافة محرك أساسي للتنمية ووسيلة مثلى لدفع مسار التغيير من خلال التوفيق بين النمو الاقتصادي والرفاه المعيشي.
اليوم، تواصل الرباط، التي ظلت زمنا طويلا ضحية وضعها كعاصمة سياسية وادارية للمملكة، مسيرها، تحت الرعاية الملكية السامية، لتصبح ان لم تكن قد أصبحت كذلك- العاصمة الثقافية للمملكة ووجهة سياحية رئيسة، انها مدينة تستعيد روحها.