في أحد أيام أبريل من سنة 1984، كان لدي موعد مع الفنان التشكيلي فريد بلكاهية، الذي كان يعرض أعماله الأخيرة بقاعة "نظر" للفن الحديث الدارالبيضاء، لصاحبتها السيدة ليلى التازي الفراوي.
مكان الموعد تم تحديده بشارع المقاومة بعمارة قديمة. كان باب الشقة مواربا، ضغطت على زر الجرس، فجاءني صوت من الداخل بأن أتفضل. ولجت ممرا طويلا ملأته اللوحات ومواد الصباغة وأخشاب الإطارات. وصوت فريد يرافق خطواتي، يطلب مني أن أتقدم إلى قاع الشقة، التي سأعرف أنها في الأصل شقتيتن تم إسقاط الحائط الفاصل بينها لتشكل شقة واحدة كبيرة، يشغلها أحد رواد الفن التشكيلي والحركة الثقافية ببلادنا، ويتخذ منه بيتا للسكن ومرسما في آن.
الشقة الكبيرة التي كانت بالطابق الأول من العمارة القديمة، كانت عالية السقف، وفق البناء المعماري الكولونيالي الذي يتميز به وسط العاصمة الاقتصادية.
وجدته مستلقيا على ظهره فوق مصطبة. اعتذر لي الفنان الكبير بأدب جم على عدم قدرته على استقبالي واقفا. ثم إن البيت لا خادمة به. وأخبرني أنه يعاني من آلام في الظهر. لكن ذلك لم يكن حائلا دون أن يكلمني وأحاوره بشأن أعماله الحديثة المعروضه في قاعة "نظر".
رد بلكاهية على جميع أسئلتي بذكاء وبمعرفة عميقة، بلغة بسيطة وطليقة، مزجت بين العربية والفرنسية. ووعدني بأن أتصل به يعد يومين لنختار معا صور اللوحات على شكل أفلام مفروزة الألوان تصلح لغلاف المجلة التي كنت أحررها.
لكن المختبر الذي أنجز فرز الأفلام لم يقم بعمل في المستوى. أتذكر فريد بلكاهية وهو يفسر لي الأخطاء التي ارتكبت، وأعطت في النتيجة عملا مليئا بالعيوب التقنية، وهي أخطاء فنية لا تدركها العين العادية. ونظرا لكوني كنت مستعجلا فقد ألححت عليه أن يسلمني بعض تلك الصور لإرفاقها مع نص الحوار، لكنه أصر على عدم صلاحيتها، وعلى ضرورة إعادة تصوير اللوحات وإعادة فرز الألوان لدى مختبر آخر، وكانت مختبرات فرز الألوان وقتها قليلة جدا.
وهذا يفسر جانبا من شخصية الفنان فريد بلكاهية الحريص على الإتقان وعدم المساومة على حساب دقة الإنجاز.
فنان طليعي
على امتداد عقود من متابعتي للحركة التشكيلية المغربية ومصاحبة وصداقة أهم الأسماء والرواد، فإني لم أكن أضيع زيارة المعارض التي يقيمها هؤلاء بالرباط أو الدارالبيضاء، وفي مقدمتهم محمد شبعة ومحمد حميدي وفؤاد بلامين ومحمد القاسمي وعبد الله الحريري ومصطفى حفيظ وبوشتى الحياني وحسين طلال وفريد بلكاهية، وهذا الأخير كان أكثرهم بحثا وتجريبا، وأشدهم تمردا على اللوحة بمفهومها الغربي، والرسم هو فن غربي بالأساس. هكذا سيجرب بلكاهية التشكيل بالنحاس والرسم على جلد الأغنام، واللجوء إلى استعمال الصباغة الطبيعية، مثل الحناء، وخرق أبعاد اللوحة ذات الإطار المربع أو المستطيل.
كما أن تجربة فريد بلكاهية خلال إدارته لمدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء تعد من التجارب الرائدة عربيا وافريقيا ودوليا، على مستوى المناهج والاهتمام بالتراث البصري والتشكيلي القروي.
كما لم يكن فريد بلكاهية بعيدا عن الدينامية السياسية والفكرية التي كانت تمور بها فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان مقربا من الحركة النقابية إذ أن تعيينه على رأس إدارة مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء في مستهل السيتينيات كان بتزكية من الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل المحجوب بن الصديق. وعندما سيؤسس الشاعر والمناضل عبد اللطيف اللعبي إطارا ثقافيا ويطلق مجلة "أنفاس" سيكون بلكاهية من أهم الفنانين الذين تحلقوا حول مبادرته الطليعية.
الوجه الآخر
فريد بلكاهية مثل أعماله الفنية، لا ينفتح بسهولة على الآخر، يبني حائطا بينه وبين الآخر. دائم الوجوم، قليل الكلام. قد لا يتردد البعض في وصفه بالمتكبر والأناني المغرور. له مشية روبو.
لكن فريد مع الأصدقاء يتحول إلى طبيعته الطفولية، لا يتوقف عن الحكي والكلام والضحك.
قبل أن يلم به المرض، ذات مساء كنت جالسا مع الصديق الفنان الساخر أحمد السنوسي برصيف مقهى "ألباريكو" بشارع محمد الخامس بالدارالبيضاء، وقد تحول اليوم إلى مطعم راق، فإذا بفريد بلكاهية يمر من أمامنا.
نادينا عليه، فجلس معنا، واستأنس بطرائف الفنان الساخر، وبالذكريات التي ذكرته أنا بها. مما جعله يترك ما كان ماضيا إليه، يومها ضحكنا ضحكا لا ينسى.
استمتعنا ذلك المساء بحكايات فريد لمغامراته في البلاد البعيدة التي زارها، وفريد كان من سلالة ابن بطوطة من دون منازع. ولم يخل حكيه من بعض التحسر والإحساس بالألم.
الوزير ووثيقة للموت
كنت ألتقي به بين الحين والآخر في مراكش والرباط والدارالبيضاء أو أصيلة. وشهدت قبل سنتين معرضه المشترك مع الراحل محمد شبعة ومحمد المليحي.
في تلك الأمسية ظهر بباب رواق "اللوفت" للفن الحديث الكائن بحي راسين بالدارالبيضاء، شخص لم يتعرف عليه الحاضرون. كان برفقة أحد مساعديه (حسن النفالي) الذي تولى مهمة تقديمه إلى الفنانين شبعة والمليحي وبلكاهية، إنه السيد محمد أمين الصبيحي، وهو الوزير الجديد، حينها، المكلف بالشؤون الثقافية.
وفجأة وقفت سيدة محجبة وبيدها مكروفون القناة الأولى، يتبعها كاميرامان. أدلى لها الراحل محمد شبعة بتصريح خاص حول المعرض، ومحمد شبعة كان مثقفا فصيحا يكتب باللغتين العربية والفرنسية بطلاقة، وكان أيضا عضوا باتحاد كتاب المغرب.
لما انتهت صحفية القناة الأولى من شبعة وضعت ميكروفونها أمام فريد بلكاهية ليتكلم بدوره، لكن بلكاهية رفض الكلام. قائلا لها:
- ليس لدي ما أقوله، إن أعمالي تتحدث عني.
لكن الصحفية أصرت متوسلة، ووقع جدال أنهاه الوزير الصبيحي، الذي تدخل وقال، ولا أعرف كيف طاوعت الكلمات الوزير ليقول ماقاله، ويا ليته صمت..
ماذا قال السيد محمد أمين الصبيحي وزير الشؤون الثقافية في حكومة بنكيران؟
وبالمناسبة فهذا الوزير ذو تكوين في مجال الإحصاء التطبيقي، هو من حزب التقدم والاشتراكية، وهو صهر للأمين العام السابق لهذا الحزب الأستاذ مولاي إسماعيل العلوي. ومما يروى أن لهذه المصاهرة دور في توزيره.
قال الصبيحي موجها الكلام للفنان فريد بلكاهية:
- لتسمح لي أسي فريد، من الواجب عليك الإدلاء بتصريح للتلفزيون ليبقى كلامك وثيقة مسجلة نلجأ إليها عندما تموت..
لا زلت أذكر وجه الفنان فريد بلكاهية كيف تغيرت قسماته، وهو فاغر فمه ينظر من فوق طوله إلى الوزير القصير القامة.
لم ينبس الفنان ببنت شفة كما يقال، وهو الذي لا تنقصه جرأة الرد، وبقي شبعة والمليحي صامتين..
بعدها أخذ الوزير الميكروفون وتحدث بأي كلام عن الفن والتراث، كلام "التعمار وخلاص".
كان فريد يعاني من مرض مزمن، بل وخطير، يتمثل في داء سرطان البروستات، ولا أقدر أن أعرف ما دار في داخله وقتها، لكن الجميع تألم من فلتة لسان الوزير.
وقبل ما يقارب السنة، وأنا خارج من محطة القطار بالرباط، مر من أمامي فريد بلكاهية بلباسه الأسود، أحب الألوان التي كان يرتديها، هممت بالمناداة عليه للسلام، لكني تراجعت.
بعدها لزم الفنان الفراش، وبلغني أن الداء استشرى بجسده، لكنه قاومه بعناد نادر. تحكي شقيقة زوجته، أن لحظة موته كانت سريعة. شهق. فهرعت إليه شريكة حياته الكاتبة رجاء بنشمسي، طمأنها أن لا شيء حصل، ثم أغمض عينيه إلى الأبد، من دون وداع.