بعد أن عبرت القيادة الحالية لحزب التقدم والاشتراكية لرئيس الحكومة المعين عن موافقتها المبدئية للمشاركة في الحكومة المقبلة، تستعد هذه القيادة لتمرير هذا الموقف بعرضه على اللجنة المركزية للحزب.فما هي المسوغات السياسية التي بنت عليها قيادة الحزب موقفا خطيرا كهذا بأبعاده الإيديولوجية والفكرية وأي تبعات ستتمخض عن هذا الموقف بالنسبة لتموقع الحزب في المشهد السياسي المغربي ؟ قبل الخوض في مناقشة هذه النقط، تجدر الإشارة أن قيادة الحزب ارتكبت خطأ كبيرا بإبداء موافقتها المبدئية للمشاركة في الحكومة قبل اللجوء إلى اللجنة المركزية باعتبارها القيادة الوطنية الموكل إليها وحدها حسب القانون الأساسي للحزب إتخاذ موقف المشاركة من عدمه.
إن موقفا كهذا يعتبر انتهاكا صريحا لأبسط قواعد الديمقراطية الداخلية ويحول اللجنة المركزية إلى مجرد غرفة للتسجيل يصعب نقاش القضايا المصيرية للحزب وللوطن داخلها بعد أن تم إغراقها ب 700 عضو وأصبح أخذ الكلمة داخل دوراتها لا يتعدى ثلاث دقائق لكل متدخل.
إذا لم يصدر لحد الآن أي بلاغ رسمي يؤكد عزم حزب التقدم والاشتراكية المشاركة في حكومة حزب العدالة والتنمية، فإن الأخبار المتواترة عن اجتماعات ديوانه السياسي تبرز بوضوح وجود أغلبية من أعضائه ترحب بهذه المشاركة بل ولا تتوانى في ذكر محاسنها وعواقبها الايجابية على الحزب وعلى “المصالح العليا للبلاد“.
فالمشاركة في الحكومة حسب زعمهم ستجعل الحزب يساهم من موقع المسؤولية في مواصلة ورش الإصلاحات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي دشنه المغرب مع مجيء حكومة التناوب .كما أن هناك عامل يتمثل في ضغط البرلمانيين المنتخبين يوم 25 نوفمبر 2011 من أجل المشاركة لما في ذلك من إيجابيات تتعلق بخدمة دوائرهم الانتخابية عبر التفاعل مع وزراء الأغلبية الحكومية المقبلة.
إن مثل هذه الادعاءات تعتبر واهية لسببين اثنين على الأقل : أولهما أن الناخبين لم يصوتوا لصالح اليسار الذي دشن مسلسل الإصلاحات بانتقاله من المعارضة إلى الحكومة فعدد المقاعد التي حصل عليها اليسار البرلماني بالغرفة الأولى مافتئ يتقلص بين 2007و2011 حيث انخفض عدد نواب اليسار من 70 نائب إلى 62 فقط.
وهو ما يشكل تراجعا مغلقا، خاصة إذا ما قارناه بعدد المقاعد الذي ارتفع من 325 إلى 395، مما يجعل حصة اليسار تنخفض من 21،5 % سنة 2007 إلى 15،6 % فقط سنة 2011 أما الادعاء بأن المشاركة في الحكومة ستساعد على حل مشاكل المواطنين في الدوائر الانتخابية، فإنه وإن كان يحتمل جانبا من الوجاهة، فإنه يكشف عن ارتهان قيادة حزب التقدم والاشتراكية للوبيات الأعيان التي أصبحت متنفذة داخل هياكل الحزب، كما يفضح المقاربة النفعية للعمل السياسي لأصحاب هذا الطرح بعيدا عن البرامج السياسية و الاصطفافات الفكرية.
إن التصويت المكثف لصالح حزب العدالة والتنمية يعتبر في نفس الوقت عقابا لقوى اليسار التي ابتعدت عن الشعب وهجرت قواعدها. كما أنه إنذار إلى محدودية البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي طبقها اليسار الحكومي ودعوة إلى بلورة بدائل جديدة تجعل المواطن يتصالح مع الشأن العام ويسترجع ثقته في القوى التقدمية واليسارية . وهذه هي الرسالة التي التقطها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وجعلته يتموقع في المعارضة في مواجهة أية حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية.
إن إ قدام حزب التقدم والاشتراكية على المساهمة في حكومة يشكلها العدالة والتنمية تتناقض مع مشروعه المجتمعي المبني على قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان في بعدها الكوني. كما تعتبر تنكرا لمقررات مؤتمره الوطني الأخير حيث أكدت الوثيقة السياسية التي صادق عليها أن مجال تحالفات الحزب يتكون من ثلاث دوائر: مكونات الكتلة،اليسار ثم التيار الحداثي الديمقراطي داخل المجتمع.
كما أن الحزب ينتصر في اختياره ومسعاه الديمقراطي والتقدمي و الحداثي إلى قيم الحرية والفردية والجماعية والمساواة بين الجنسين والتضامن بين المواطنين وإطلاق الطاقات وتحفيز الإبداع.ويدعو إلى الانفتاح الايجابي على مختلف مظاهر التقدم الذي تحرزه الحضارة الإنسانية، وهو بذلك حزب يناهض كل الأفكار المحافظة والتوجهات الرجعية والنكوص.
من جهة أخرى، لم يأل الأمين العام السابق للحزب جهدا بالتنديد بتوظيف الدين في السياسة وفضح الخطاب المزدوج لأنصار الإسلام السياسي ،وعلى رأسهم حزب العدالة والتنمية.فماذا تغير منذ انعقاد المؤتمر الوطني الثامن ؟هل أصبح العدالة والتنمية ديمقراطيا حداثيا وهو الذي أبان غير ما مرة عن عدائه لحقوق المرأة من خلال معارضته الشرسة والعنيفة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية وتنديده برفع المغرب لتحفظاته على الاتفاقية الدولية لمناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة؟ ألم يعارض هذا الحزب بقوة قانون القروض الصغيرة إبان فترة حكومة التناوب بدعوى تشجيعه للربا.
أنسي قياديو حزب التقدم والاشتراكية الهجومات المتكررة للعدالة والتنمية على المهرجانات الثقافية باعتبارها هدرا للمال العام وتمييعا للذوق العام وتشجيعا على الدعارة والتحلل الخلقي ؟
ألا تتعارض كل هذه السلوكات مع قيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان الكونية التي يدعي حزب التقدم والاشتراكية الدفاع عنها؟ ألم يعلن قياديو العدالة والتنمية على نيتهم منع اختلاط الجنسين في الشواطئ وعدم السماح بفتح حانات جديدة ،مما سيشكل ضربة قوية للقطاع السياحي الذي يعول عليه المغرب للنهوض باقتصاده العليل؟
من جهة أخرى ، يشكل البرنامج الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية تكريسا للاختيارات النيولبيرالية المعتمدة على لبرلة الاقتصاد والخوصصة والتقشف لضبط عجز الميزانية العامة،هذه الاختيارات نفسها التي أدت إلى الاحتقان الاجتماعي الذي يعرفه العالم وإلى اتساع الفوارق الطبقية والجهوية. هل يمكن الاستمرار في المراهنة على القطاع الخاص ومغازلته عبر تخفيضات ضريبية جديدة ) يعتزم حزب العدالة والتنمية خفض الضريبة على الشركات إلى 25 % ) للدفع بعجلة النمو وخلق مناصب الشغل اللائق ؟هل تكفي المقاربة الخيرية والاحسانية عبر تعبئة أموال الوقف والزكاة لمحاربة ظاهرة الفقر؟ ألا تخفي هذه المقاربة عجزا فكريا في تحليل آليات إنتاج الفقر المرتبطة أساسا بالنظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي التابع الذي ينتهجه المغرب منذ عقود والذي يولد الفقر والغنى على حد سواء ويؤدي إلى بلترة الفئات المتوسطة؟.
يتضح مما سبق أن المشاريع الاجتماعية التي يحملها حزب التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية على طرفي نقيض وأن لا شيء يجمع بينهما؟في هذه الحالة ،لايمكن تفسير التحاق حزب التقدم والاشتراكية بحكومة "البيجيدي"إلا على أنه هروب إلى الأمام وتلبية للرغبة الجامحة للبعض في الاستوزار وتقلد المناصب الإدارية والاستفادة من الريع السياسي . وستكون عواقب هذا الاختيار ،إذا كما تأكد ،وخيمة على الحزب إذ ستعزله نهائيا عن صفوف اليسار وتنزع عنه هويته الاشتراكية وتجعل منه مبتذلا دون تموقع واضح داخل المشهد السياسي ، لا هو باليساري ولا هو باليميني.
لهذا وجب على كل المناضلين الشرفاء والمناضلات الصادقات داخل هذا الحزب العريق الوقوف في وجه هذا الانحراف المصلحي والانتهازي الذي يتهدده والعمل على المحافظة على اصطفافه إلى جانب قوى اليسار حتى تتم عملية الفرز الإيديولوجي والسياسي بين اليمين والوسط واليسار التي بدأت معالمها تبرز على الساحة السياسية المغربية؟.