يقلق هاجس المقاطعة الانتخابية السلطة في الجزائر، عشية الانتخابات التشريعية المبكرة المقررة اليوم السبت، بعد نسب التصويت التي شهدها آخر استحقاقين منذ تفجّر الحراك الشعبي في فبراير 2019: الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر 2019، التي بلغت نسبة التصويت فيها 38 في المائة، والاستفتاء على الدستور في 1 نوفمبر الماضي، الذي تدنت نسبة التصويت فيه إلى 23 في المائة. وعلى الرغم من تجاوز السلطة العقدة التي كانت تربط بين شرعية الانتخابات ومصداقيتها وبين مدى مشاركة الناخبين وارتفاع نسب التصويت، إلا أنها ترغب في أن تحدث ديناميكية جديدة. وتنطلق رغبة السلطة من الحراك الانتخابي المواكب للانتخابات، منذ بدء الترشيحات وصولاً إلى الحملة الانتخابية، فضلاً عن كثافة مشاركة الأحزاب السياسية والمستقلين في الانتخابات، ونشاطهم الحثيث خلال الأسبوعين الماضيين لإقناع الناخبين بضرورة التوجه إلى صناديق الاقتراع. وترى السلطة في ذلك تحولاً إيجابياً يرفع من مؤشرات المشاركة، بما يضفي الشرعية الشعبية الضرورية على البرلمان المقبل. وسبق أن طرحت نسب المشاركة تساؤلات عدة في الأشهر الماضية، فقبل شهرين سُئل الرئيس عبد المجيد تبون في حوار صحافي حول مدى تأثر شرعية الدستور، الذي عُرض للاستفتاء الشعبي في نوفمبر الماضي، بنسبة التصويت المتدنية والمقاطعة الشعبية والسياسية، وجاء رده بما يفيد بأن السلطة لم تعد منشغلة بنسبة التصويت. حينها قال تبون، إن تدني نسبة التصويت في الانتخابات ظاهرة موجودة في كبرى الديمقراطيات، وأنه لا يوجد نص في الدستور أو القانون يحدد عتبة تصويت دنيا يتحدد على أساسها اعتماد نتيجة الانتخابات أو إلغاؤها. بيد أن الظروف السياسية التي تأتي في سياقها هذه الانتخابات، بعد الحراك الشعبي والمتغيرات الكبيرة التي أحدثها على أكثر من صعيد، تجعل من نسبة التصويت على البرلمان المقبل مهمة، خصوصاً أن هذا البرلمان ينتظر أن يأخذ بشكل أو بآخر طابع برلمان التغيير والتأسيس لمرحلة انطلاق حقبة الإصلاح السياسي، ضمن مشروع يطلق عليه تبون اسم "الجزائرالجديدة". وهو ما يجعل من إقبال الناخبين المكثّف ضرورة سياسية لإضفاء أكبر قدر من الشرعية التمثيلية على البرلمان، وتفادي أزمة "التمثيل والشرعية" التي ظلت تلاحق كل البرلمانات السابقة منذ استقلال البلاد في عام 1962. لكن الكثير من المراقبين يعتقدون أن لهذه الانتخابات خصوصية مختلفة مقارنة مع باقي الاستحقاقات الانتخابية، مع تداخل عوامل عدة لرفع نسبة المشاركة وتصويت الناخبين. في السياق، يعتبر المحلل السياسي محمد خديم أن "مشاركة مرشحين من العمق الشعبي من الشباب، وانخراط الأحزاب السياسية الكبيرة التي قاطعت رئاسيات 2019 والاستفتاء على الدستور، مثل حركة مجتمع السلم وجبهة العدالة والتنمية وجيل جديد وغيرها في الانتخابات، يعزز التوقعات بارتفاع نسبة المشاركة". ويرى في حديث ل"العربي الجديد"، أن وجود هيئة مستقلة للانتخابات بالإضافة إلى التعهدات التي أطلقها تبون، أول من أمس الخميس، بالقطيعة مع المحاصصة، يضمن احترام صوت الشعب. وحول مسار الحملة الانتخابية، يقول خديم إنها "أعطت مؤشرات طيبة، وهناك عامل آخر يساعد على ارتفاع نسبة التصويت، وهو ضعف جبهة المقاطعة أكثر هذه المرة". ويشير إلى أن "الحراك وأحزاب الكتلة الديمقراطية، وهي جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وحزب العمال والحركة الديمقراطية الاجتماعية والاتحاد من أجل التغيير والرقي، قررت مقاطعة الانتخابات النيابية". ويضع ذلك في إطار الاستسلام "للأمر الواقع لدرجة عدم إنجازها حملة مقاطعة للانتخابات، مكتفية بإعلان موقفها من دون تفعيله على المستوى الشعبي". ويعزو ذلك إلى نتيجة حملة التضييق التي باشرتها السلطات ضد كل قوى المعارضة السياسية والمدنية، بهدف إنهاكها وتقليص نطاق تحركها. لكنه في المقابل، يلاحظ بروز عامل قد يشجع على الارتفاع النسبي لمؤشر التصويت، وهو تراجع ضغط الحراك الشعبي على الناخبين والحزم الذي أبدته السلطة مع أي تشويش أو مشاهد تعطيل الاستحقاق الانتخابي، مقارنة مع مشاهد منع الناخبين وتخريب مكاتب الاقتراع في استحقاقي الرئاسيات والاستفتاء على الدستور.وإذا كانت مشاهد الحملة الانتخابية قد أظهرت أملاً في إمكانية تحقيق نسبة تصويت مقبولة، مقارنة مع الاستفتاء على الدستور، فإن منطقة القبائل (غالبية سكانها من الأمازيغ)، تبدو أكثر تحفزاً لمقاطعة الانتخابات. ولم تشهد ولايات تيزي وزو وبجاية والبويرة، بدرجة أقل، أنشطة وتجمعات انتخابية لقادة الأحزاب والمستقلين. وأحجم المرشحون في هذه الولايات عن تنشيط اللقاءات الحوارية أو تعليق ملصقاتهم الدعائية حتى. وتعرّض بعض المرشحين إلى حملة ترهيب وضغوط محلية كبيرة حالت دون تنظيم لقاءات، بسبب الموقف الشعبي الرافض للمسار الانتخابي. وفضّلت عدة أحزاب سياسية عدم تقديم قوائم مرشحين في ولاية مثل تيزي وزو، تجنباً للوقوع في مشاكل لمناضليها في المنطقة. وفي موضوع مقاطعة هذه الولايات، يشرح الناشط في الحراك الشعبي في مدينة بجاية سعيد مرسالي ل"العربي الجديد"، أن "مدن ولاية بجاية وبلداتها لم تشهد أي حملة انتخابية، ولم يزر الولاية قادة الأحزاب ولم تعقد التجمعات الانتخابية كتلك التي شهدتها باقي الولايات". ويعزو ذلك إلى "الموقف الشعبي الرافض للانتخابات، عبر منع ورفض أي مظاهر لها. وهذا الموقف يتم التعبير عنه بشكل أسبوعي، حتى قبل الحملة الانتخابية، من خلال تظاهرات الحراك الشعبي. ويمكن ملاحظة منع التظاهرات بالكامل منذ شهر في العاصمة ومختلف المدن، ما عدا مدن منطقة القبائل، التي تستمر فيها التظاهرات كل يوم جمعة". ويرى أن هذا الاستثناء يعني "أن السلطة تتجنب الصدام مع سكان المنطقة في الوقت الحالي". ويستعين مراقبون بالتاريخ لشرح خصوصية منطقة القبائل، معتبرين أنها في حالة صدام مع السلطة منذ عام 1963، مروراً بأحداث الربيع الأمازيغي في إبريل 1980، ثم إضراب المحفظة عام 1994 (احتجاجاً على قانون تعميم استخدام اللغة العربية)، وأحداث الربيع الأسود في إبريل 2001، التي سقط خلالها 165 شاباً من المنطقة. وتلت هذه الأحداث مقاطعة تامة للانتخابات النيابية التي جرت في مايو 2002، مع بلوغ نسبة التصويت فيها أقل من 4 في المائة، فيما كانت تراوح سابقاً بين 8 و23 في المائة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية. كما اقترع أقل من 1 في المائة من الناخبين في منطقة القبائل، في الرئاسيات والاستفتاء على الدستور أخيراً. وما يعزز التوقعات بارتفاع نسبة المقاطعة في منطقة القبائل تحديداً، هو إعلان أكبر حزبين متمركزين في المنطقة مقاطعتهما للانتخابات، وهما جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. وهي المرة الثانية التي يتوافق فيها الحزبان على قرار المقاطعة بعد انتخابات عام 2002. ويبرران ذلك بتسبب السلطة بهذا الوضع، نتيجة إصرارها على ما يعتبرانه "مساراً غير توافقي". ويحذر الحزبان من مساهمة الانتخابات في عزل أكبر لمنطقة القبائل، خصوصاً أن ذلك سيعزز طروحات حركة "الماك" الانفصالية (تطالب بانفصال المنطقة عن الجزائر بسبب الخصوصيات الإثنية). في السياق، يتوقع القيادي في "جبهة القوى الاشتراكية" جمال بالول، في حديثٍ ل"العربي الجديد"، "مشاركة ضعيفة في مختلف مناطق الوطن، لا في منطقة القبائل فحسب. هنا لا شيء يوحي بأن هناك انتخابات، لا قوائم للمرشحين ولا حملة انتخابية ولا تجنيد للمؤطرين"، ويرى أن "السلطة تساهم في اللعبة من أجل تكريس المزيد من العزل لمنطقة القبائل"، مضيفاً أنه "بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة، نتيجة الخيارات التي اتبعتها الحكومة، فإن الظروف التي تنظّم فيها الانتخابات، المتسمة بالاعتقالات التعسفية خارج القانون وقمع كل الأصوات المعارضة لخريطة الطريق الانتخابية، ستجعلها من أضعف الاستحقاقات في تاريخ الجزائر، مرفقة بأدنى نسبة مشاركة، ما يفقدها الشرعية". عن "العربي الجديد" بتصرف