المعاول والجرافات ترابض بين أزقة وشوارع البيضاء.. تترقب.. تنحفز، تنتظر الفرصة والموعد المناسب، للشروع في هدم البنايات والدور التاريخية سلاح أصحابها في ذلك، أحكام متسرعة ورخص هدم وبناء وطرق ملتوية، واستغلال ل«غفلة» أعين لجن المراقبة والجهات المسؤولة عن حماية هذا الموروث التاريخي. إلى درجة أن سيناريوهات الإجهاز والتدمير باتت حديث العام والخاص ومتابعات المختصين والغيورين في السعي إلى رصد هذه التجاوزات، والدعوة إلى تفعيل رزنامة القرارات والقوانين الهادفة إلى صيانة هذه المعالم من الزوال..
بالبيضاء هناك بنايات وعمارات تعد بالمئات، هي موروث إنساني وثقافي يشهد لفترة تاريخية غنية، لكنه مهدد بمخاطر الانهيار، والاندثار. وضع لايحتاج إلى عناء بحث في شوارع وأزقة وساحات العاصمة. مالكو هذه الأبنية والعقارات، محتارون ولايترددون، وأمام إغراءات ارتفاع أثمنتها في سوق العقار في السعي إلى الحصول على رخص الهدم، تحت مبررات التداعي، رغم أن بناياتهم سليمة من الناحية الهندسية بشهادة خبراء في الميدان، وفاعلون مهتمون بالقيمة الحضارية والجمالية لهذه البنايات. المالكون المدركون لهذه الحقائق يلجؤون إلى حيل ويسلكون مسارات، قد تستغرق منهم سنوات، للالتفاف على القيود القانونية، ويعمدون إلى التقدم بطلبات هدم مبررين ذلك بتردي حالة البناء، والخطورة التي يشكلها على القاطنين بها. لكن في الوقت الذي لايتحقق لهم ذلك، فإنهم يعمدون وبكل بساطة إلى إهمالها، علما أن قانون رقم 22.80 يمنحهم الحق في المطالب بتعويضات للقيام بعمليات الترميم والإصلاح. ولاغرابة أن يسجل بالبيضاء العشرات من الفيلات والبنايات، تركها أصحابها ملاذا للمشردين، ومكانا لإلقاء النفايات ومواد البناء.
وبما أن مسطرة استيفاء هذه التعويضات طويلة، فإن المعنيين يقومون في حال تمكنهم من إفراغ سكانها إما بالتراضي أو عن طريق «القضاء»، بإهمالها ( نموذج فندق نجمة بشارع محمد الخامس ) فالبناية الأخيرة ورغم متانتها، فقد تم إخلاؤها من أصحابها في ظرف قياسي، خاصة منها المحلات التجارية بالطابق السفلي، حيث تم وبعد تعويضهم اللجوء إلى القضاء والتي حكمت بالهدم رغم أن البناية تدخل ضمن البنايات المصنفة، وذلك تحت قرار رقم 196-11 بتاريخ 25 يناير 2011. سرعة القرار لم تمنح الفرصة أمام المدافعين عن المعالم التاريخية باستئناف الحكم، حسب ما أكدته مصادر جمعوية.
أصحاب هذه البنايات لايكتفون بالإهمال البين. في عدد من الأحياء والشوارع وسط المدينة، يعاين الزائر بنايات مسجية النوافذ، ومغلقة الأبواب بواسطة الآجور والأسمنت المسلح، لكن ما لايدرك مباشرة، أن عمليات تخريب داخلية تسير على قدم وساق. إتلاف متعمد لكافة التجهيزات الأساسية من قنوات الماء وأسلاك الكهرباء. إحداث شقوق بارزة في السقوف لتبدو مع مرور الوقت، مجرد بنايات « خراب» تشكل تهديدا على القاطنين أو المارين بجوارها. لجن المعاينة وطبقا لما يخول لها القانون، ملزمة وبعد معاينة البناء بتسجيلها ضمن البنايات المهددة بالسقوط. خلاصة منتظرة لمسلسل من «الإتلاف، يعلم أصحابه أن إغراءات العقار خاصة بالمثلث الذهبي للعاصمة، لن تزيدهم إلا إصرارا لانتزاع الرخص ، وتحين الفرص ل«الانقضاض» على البناية وهدمها. غير أن العملية الأخيرة ليست بالأمر السهل، خاصة مع تحركات الجمعيات والجهات المعنية في مراقبة المباني التاريخية. المعنيون يختارون المناسبات الدينية، والعطل لتحريك الجرافات والعمال لمباشرة أعمال الهدم. ومن الأمثلة الصارخة حول تنامي هذه التحايلات ما أثاره سكان عمارة 47 بشارع حسن الصغير بمقاطعة سيدي بليوط ، فهؤلاء تقدموا إلى الجماعة الحضرية بالدارالبيضاء بعد أن عاينوا التدمير الذي لحق مستودع هنري هامل من نوافذ عمارتهم، وطالبوا من خلالها برفع الضرر عنهم، وتجنيبهم التشرد جراء سعي الشركة المالكة للعمارة إلى هدمها، وأكدوا أن ما أثار استغرابهم هو تسليم الجماعة الحضرية لرخصة بناء بناية من خمسة طوابق بالرغم من أن مقتضيات التصميم التابع لتراب مقاطعة سيدي بليوط تنص على أن واجهة العمارة تشكل تراثا معماريا لمدينة الدارالبيضاء، وبالتالي وجب المحافظة عليه.
تقييد البنايات الأثرية.. صمام أمان كل قرارات تقييد البنايات في عداد الآثار تنص على أنه لايمكن تغيير طبيعة الملك المقيد أو ترميمه أو إدخال أي تغيير عليه، مالم تعلم به وزارة الثقافة قبل التاريخ المقرر للشروع في الأعمال ستة أشهر على الأقل. ويستند تنفيذ هذه القرارات إلى مفتش المباني التاريخية والمواقع بالدارالبيضاء المفوض له سلطة الترخيص على هذه الأعمال من طرف السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة وفقا للمادة 43 من المرسوم رقم 2.81.25 الصادر في 2 أكتوبر 1981 بتطبيق القانون رقم 22.80 المتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعادية المتضمن الأمر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.80.341 ( 25 دجنبر 1980.
التصنيف آلية أولية للإنقاذ . . لكن ! ما بين سنة 2003-2004 صدرت لائحة تصنيف مهمة بالجريدة الرسمية لسلسلة من المباني والساحات التاريخية تشهد على مرحلة من تاريخ البيضاء وتمثل القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بناء على طلب التقييد الذي تقدم به والي جهة الدارالبيضاء الكبرى ، وعامل عمالة الدارالبيضاء – أنفا بتاريخ 11 أكتوبر 2002، وبعد استشارة لجنة التقييد خلال اجتماعها المنعقد بتاريخ 25 مارس 2003. اللائحة الأولية اعتبرت تتويجا لتقديرات وصراعات بين عدة أطراف استمر لسنوات طويلة، خاصة بعد أن تعرضت العديد من البنايات للتدمير والهدم في عدد من الأمكنة، من بينها لا الحصر فندق أنفا الذي كان يقع في منطقة معزولة وسط الفيلات، و شهد مؤتمر الدار البيضاء المعروف في يناير 1943 والذي حدد فيه تشيرشل وروزفلت الاستسلام اللامشروط لألمانيا، وحسب جمعية ذاكرة الدارالبيضاء، فقد كان من الممكن أن يرمم، وأن تتم صيانته كما هو الحال بالنسبة للمسرح البلدي بساحة محمد الخامس، والعشرات من البنايات المتفرقة في أماكن أخرى التي كان مصيرها مأساويا.
اللائحة الرسمية ( غنية ومهمة وضمت مجموعة من المباني والساحات المعروفة لدى البيضاويين، كالمجازر البلدية، قصر المعارض، فيلا فيوليطا، سويسا، بناية البريد، المقر الجهوي للخزينة، قصر العدالة بشارع محمد الخامس، مقر عمالة المشور، السوق المركزي و المعرض البحري، ووصل عددها في المجموع إلى 49 بناية، هذا في الوقت الذي ما زالت فيه المئات منها خارج لائحة التصنيف، فجميع اللوائح حسب المفتشية الجهوية للمباني التاريخية التابعة لوزارة الثقافة معلقة، بعد أن أحجمت عدة جهات بالولاية عن القيام بهذه المهمة، وأخذ المبادرة لتسجيل معالم وبنايات أخرى، قد تنقذها من مصير الهدم الذي يتهددها في أية لحظة.
الترسانة القانونية الحالية قاصرة عن حماية التراث المعماري بالعاصمة اعتبر المهندس وليد اسماعيل في معرض تعليقه على الوضعية الحالية للتراث المعماري بالبيضاء، أن الترسانة القانونية الحالية خاصة قانون رقم ( 22.80 ) قديمة ومتجاوزة، وقد فتحت الثغرات والنقائص المجال للوبيات العقارية «القوية» بالعاصمة للتحايل عليه، واستغلال تلك الثغرات قصد الإجهاز على التراث المعماري، واستصادر رخص الهدم وإشعال نار المضاربة في هذه الأبنية. المسؤول وهو خبير في التراث المعماري خاصة منه الذي يعود إلى الفترة الكولونيالية، أكد أن وزارة الثقافة منكبة حاليا على صياغة مشروع قانون جديد كفيل بتوفير حماية أنجع للمباني التاريخية، وهي خطوة لها أهميتها القصوى من الناحية التشريعية، لضمان مزيد من الحماية للمعمار الحضاري.
كما أن دور الوكالة الحضرية له أهمية قصوى من خلال تصاميم التهيئة التي تنجزها، والتي يتوجب عليها أن تحدد بدقة الأبنية المصنفة، وضرورة التقيد بإجراءات والتشاور مع الجهات المسؤولة قبل إقدام أي مالك للعمالة، على القيام بإجراء من شأنه أن يرمي إلى تغيير وضعها أو السعي إلى هدمه وإعادة بنائه.
موضوع التراث حسب المسؤول هو مسؤولية الجميع ، بدء من المجالس المحلية، والوكالة الحضرية، والوزارة الوصية علاوة على جمعيات المجتمع المدني والاعلام للوقوف في وجه المضاربين العقاريين، واللوبيات التي تتحرك بقوة لاستغلال كل هفوة في هذا المجال.
وبخصوص ترميم البنايات التاريخية فإن العملية، وكما هو معمول به في دول أخرى، لاتقتصر على وزارة الثقافة لوحدها، فهذه الأخيرة تقوم بالتتبع، وضمان الترسانة القانونية ، والعمل على إخراجها إلى حيز الوجود عبر الآليات التشريعية سواء من خلال مراسيم أو مشاريع قوانين ومذكرات. لكنها لاتمتلك السلطة الإدارية والتي هي في يد العامل والولاة، والذين يملكون آليات لضبط المخالفات والحد منها، لكن رغم ذلك فهذا لايمنع الوزارة من أن تتبنى عمليات ترميم معالم كبرى كصومعة حسان والأوسوا.. أما بخصوص الخواص فإن مقتضيات القانون المذكور أعلاه، مازالت للأسف لاتسمح بتحديد هذه الأدوار بشكل جلي. * وليد اسماعيل مهندس طوبوغرافي بمديرية وزارة الثقافة بجهة الدار البيضاء الكبرى
طالبنا بإحداث محيط تراثي بالبيضاء والاعتراف به عالميا
* من خلال لجن المراقبة، ماهي الطرق المعتمدة لهدم المباني التاريخية؟ للأسف نسجل وعند تحركنا لاقتراح تصنيف مبنى تاريخي معين بالعاصمة، تنامي المخاوف لدى مالكي هذه البنايات والمآثر التاريخية. فهؤلاء يسارعون إلى التقدم بطلبات للترخيص بالهدم، ويسلكون من أجل ذلك العديد من الطرق، سواء منها «القانونية» أوالملتوية، وفي حال حصولهم على ذلك، يقومون باستغلال مناسبات الأعياد والعطل قصد مباشرة أعمال الهدم بسرعة قياسية، لاتترك مجالا للمراقبة أو التعرض، والأمثلة عديدة على ذلك كما حدث خلال عطلة المولد النبوي الأخيرة، حيث فوجئنا بهدم عمارة سكنية بشارع الزرقطوني، كانت في طور التصنيف. نفس الأمر سجل في شوارع وأزقة شهدت فيها المباني والعمارات نفس المصير وبنفس الطريقة والسيناريو. ونذكر في هذا الصدد المصير المحزن الذي لحق «فيلا كاديت» الكائنة بزنقة شارميل حي الوازيس، وهي للمهندس أوجست كادي. وهي ليست الواقعة الوحيدة بل سبقتها عمليات هدم أخرى كبناية هونجير، وهاميل، والأروقة المغربية.
فللعلم فإن في البيضاء ما يقارب 700 بناية ومعلمة تاريخية مرشحة للتصنيف، وقد طالبنا مختلف الجهات وفي مناسبات عديدة بالمحافظة عليها وحمايتها باعتبارها تراثا إنسانيا لكل المغاربة. بل أبعد من ذلك، تقدمنا بمقترحات كوضع تصميم تهيئة يراعي هذه الجوانب المستثناة، من خلال التشاور مع مختلف الفاعلين سواء الجمعويين أو المعنيين بها من الملاك وأصحاب البنايات أنفسهم لحمايتها.
* لقد طالبتم في مناسبات عديدة بإحداث محيط بالبيضاء يضم هذه المباني ويضمن لها الحماية، ماهي الدوافع الحقيقية إلى ذلك؟
مقاربة الدفاع عن التراث كانت حاضرة في تحركنا الدائم ميدانيا أو من خلال تنظيم أنشطة ولقاءات، لذلك فجهودنا كانت تصب ومنذ 18 سنة، ومن خلال حملات تحسيسية، وعبر تنظيم أيام وجامعات التراث السنوية بتعاون مع العديد من الجهات المتدخلة، إلى المطالبة بإحداث محيط محافظ عليه للمباني التاريخية بالعاصمة، ومنع أية محاولة للهدم وإشراك الجمعية في الطلبات المقدمة إليها، واتخاذ القرارات المناسبة. عملنا لم يتوقف عند استشراف مستقبل المدينة المعماري وعلاقته بالتاريخ. بل إننا نسعى إلى تصنيف القاعات السينمائية، والتي تحول للأسف الكثير منها إلى مراكز تجارية. علما أن «الحرب » عن المدافعين عن التراث لم تتوقف، ففي البداية ومع تأسيس جمعيتنا كنا ننعت بالدفاع عن المعمرين، وآثارهم، غير أنه ومع مرور الوقت بدأ الجميع يدرك أهمية دفاعنا عن هذا الموروث المشترك، باعتباره ملكا للمغاربة، وذاكرة تشهد على فترة من تاريخهم الغني، الكفيل بصيانة ذاكرة مهددة في أي وقت بالنسيان.
أهم المعالم المقيدة في العقد الأخير بولاية الدارالبيضاء الكبرى إعدادية القسطلاني، مدرسة الأزهر، ثانوية محمد الخامس، ثانوية الخوارزمي، المجازر البلدية، مستشفى 20 غشت، حديقة مردوخ، مقر عمالة المشور، شركة التبغ، بريدالحبوس، حي بوسبير، ثانوية خناثة بنت بكار، عمارة نيبتون، عمارة لابرانسيير، فندق ماجستيك، الصيدلية المركزية، عمارة بيو، كولمار، ثانوية ابن تومرت، قمارة لايستوديو، عمارة شيل، عمارة بن دحان، عمارة سوني، عمارة ماري، الكلاوي، ماروك سوار، اساياك، فوليبيليوس، فندق اكسلسيور، كومنوار ميتالجيك، الدائرة العسكرية، كنيسة ساكري كور، الخزينة الجهوية البريد، مقر ولاية الدارالبيضاء، مقر بنك المغرب، السوق المركزي، مقر البنك التجاري المغربي، فيلا سويسا، بونيسي، بناية بيسونو، فندق لينكولن، قصر المعارض، فيلا فيوليتا، فيلا لاتورييل.
ويحتل شارع محمد الخامس النسبة المهمة من البنايات التاريخية، فيما يصل عدد البنايات المقيدة، بمقاطعة سيدي بليوط بعمالة أنفا إلى 35 بناية متبوعة، بمقاطعة مرس السلطان 10 بنايات مقيدة في عداد الآثار بولاية الدارالبيضاء الكبرى من أصل 51 بناية.
وحسب تقارير جمعية ذاكرة البيضاء، فهناك 200 بناية مصنفة، تنتظرالتقييد النهائي، كما أن العاصمة تضم 700 معلمة تاريخية لكنها غير مصنفة. معظمها يوجد في المثلث الذهبي، بوسط المدينة تحديدا.