خلال السنوات الأخيرة كان كل من تسأله عن المستقبل في المغرب يرفع حاجبيه إلى الأعلى ويقول لك إن الله وحده يعرف. كان منسوب الثقة ينخفض بشكل مخيف، وقد كان عامل فقدان الثقة وراء تهريب الأموال وهروب الكفاءات والرغبة الجامحة في الهجرة بكل أنواعها. الجميع كان خائفا يتوقع انهيار الدولة في أية لحظة وحدوث اضطرابات اجتماعية. حتى التقارير الصادرة عن مؤسسات رسمية كانت تقرع أجراس الإنذار هذه معززة بالأرقام. لكن حدث ما لم يكن يتوقعه كثيرون، فالطريقة التي واجهت ودبرت بها الدولة جائحة كورونا، بقيادة شخصية من الملك، فاجأت الجميع، الناس اكتشفوا أن لديهم دولة لديها القدرة البشرية والمادية أولًا لتوقع الأحداث وثانيًا لتطويقها والتحكم فيها، وهذا في حد ذاته إنجاز كبير من شأنه أن يعيد ثقة المواطن في دولته ومؤسساتها الأمنية التي أظهرت جاهزية وفعالية ومهنية في التعاطي مع الأزمة شهد بها الخارج قبل الداخل. طبعًا كانت هناك بعض التجاوزات والأخطاء وهذا شيء عادي، وهي أخطاء كانت ضرورية للتعلم منها لتفاديها مستقبلا. خصوصا عدم التعويل بشكل كبير على أعوان السلطة لتحديد من يستحق الدعم ممن لا يستحقه، إذ المفروض أن تكون لوائح المحتاجين متوفرة في خوادم مركزية بوزارة الداخلية للتقليل من التدخل البشري في تحديد المستفيدين. لأن هذه المشكلة كانت أكبر مشكلة واجهتها الدولة، أن يصل الدعم لمن لا يستحقه ويتم حرمان من يستحقه فعلا. الآن هذا الرأسمال العام من الثقة الذي راكمته الدولة ومؤسساتها خلال أشهر هذه الجائحة الثلاثة لا يجب أن يتم هدره بسبب ارتباك جهاز حكومي ليست لدى رئيسه القدرة على المثول أمام الشعب في مؤسسة البرلمان وإطلاعه على خطته للستة أشهر المقبلة. في فرنسا رأينا كيف خرج مدير المجلس العلمي لكي يقول للفرنسيين إنهم استطاعوا السيطرة على فيروس كورونا وأنهم وضعوا مخططا لما بعد الجائحة يمتد لستة أشهر، فقد مروا من تسجيل 80.000 حالة كل يوم في بداية الجائحة إلى تسجيل أقل من 1000 حالة يوميا الآن، وفقدوا حوالي 29 ألف مصاب. والأهم في ما قاله رئيس المجلس العلمي هو أن فرنسا لن تعود مرة أخرى لفرض الحجر الصحي العام حتى ولو وقعت موجة ثانية من جائحة كورونا، مخاطبا الفرنسيين: "الآن المعالجون هم أنتم، انقضوا على هذا المرض". أي أن الفرنسيين عليهم أن يعودوا لحياتهم الطبيعية مع تطبيق تدابير السلامة من تباعد اجتماعي وكمامات ونظافة وغير ذلك. لكن هذا لا يعني أن المجلس العلمي يطلب من المواطنين القفز في الهواء دون مظلات، بل إنه وضع أربعة سيناريوهات للأشهر القادمة. السيناريو الأول متفائل وهو أن المرض متحكم فيه وما يلزم فقط هو الاستمرار في تكثيف الفحوصات، عزل المصابين وتتبع المخالطين. السيناريو الثاني أقل تفاؤلا وهو ظهور بؤر للعدوى، وفي هذه الحالة يجب تكثيف الفحوصات وعزل محلي للمنطقة التي تظهر فيها العدوى. السيناريو الثالث ظهور تباشير بعودة الجائحة، في هذه الحالة سيكون عليهم حماية دور العجزة والرفع من التباعد الاجتماعي وتشديد تدابير السلامة وإعداد المستشفيات لاستقبال المصابين. السيناريو الرابع وهو السيناريو الكارثي ويتعلق بفقدان السيطرة على الفيروس في هذه الحالة يمكن توقع حجر صحي شامل لتفادي الاكتظاظ بأقسام الإنعاش بالمستشفيات. هذه المرحلة حسب مدير المعهد العلمي ستضع المسؤولين السياسيين أمام اختيار تطبيق الحجر الصحي الوطني لتقليص عدد الوفيات المباشرة، أو اختيارات أخرى ذات أهداف اقتصادية واجتماعية ستكون فاتورتها هي ارتفاع نسبة الوفيات المباشرة. بمعنى آخر فمدير المعهد العلمي يترك الخيارات مفتوحة أمام المسؤول السياسي في حالة فقدان السيطرة على الفيروس، بين أن يتفادى تطبيق الحجر الصحي وأن يضحي بحياة نسبة من المواطنين مقابل إنقاذ الاقتصاد، أو أن يطبق الحجر الصحي ويضحي بالاقتصاد. هكذا بكل بساطة. ما أحوجنا إلى مسؤول يتحدث أمامنا بهذا الوضوح وهذه الصراحة. لكن يبدو أن السيد رئيس الحكومة ووزيره في الصحة، الذي يزوره هذه الأيام مفتشو المالية، مشغولان بأشياء أخرى غير إطلاع المغاربة عما ينتظرهم خلال الأشهر الستة القادمة، وكيف نطلب منهما ذلك والحال أنهما ليسا قادرين على إخبارنا حتى بما ينتظرنا خلال الأسبوع المقبل. فنحن نسمع من يقول بأن الحجر الصحي سيرفع يوم 10 ونقرأ هنا وهناك أن تمديدا لأسبوعين سيطول الحجر مجددًا، ولا من ينفي ولا من يؤكد. وإذا ما ارتأت المصالح الصحية، بالنظر للمعلومات المتوفرة لديها، أن يتم تمديد الحجر الصحي لأسبوعين إضافيين فإن المغاربة سينضبطون لهذا القرار، لأن المصلحة العليا للبلد أهم من كل شيء. ورغم ذلك فالحالة الوبائية بالمغرب أكثر من إيجابية مقارنة مع نظيرتها في فرنسا، فالمغرب سجل منذ بداية الجائحة وإلى حدود الساعة 8030 حالة توفي منها 208 حالة فيما تعافى منها 7967 حالة، في حين كل الحالات التي تتلقى العلاج في كامل التراب المغربي لا تتعدى 607 حالة. بسبب الجائحة وتخصيص مستشفيات القطاع العام والخاص للمصابين بالفيروس تم توقيف وتأجيل عشرات الآلاف من العمليات الجراحية لمئات الآلاف من المصابين بأمراض مزمنة وخطيرة. مئات الآلاف توقفوا عن زيارة أطبائهم ومنهم من توقف عن أخذ الدواء وجلسات الشيميو، ومنهم من يوجد في حالات متقدمة من السرطان. وخلال الأشهر الثلاثة التي مضت كل من عانى من مشكل في أسنانه أو عينيه أو أذنيه كان عليه أن يصبر ويتحمل الألم لأن كل المصحات والمستشفيات لم تكن تستقبل سوى مرضى كوفيد. وأعتقد أن الفاتورة الصحية التي سيدفعها المغرب جراء هذا الوضع ستكون أثقل بكثير من فاتورة كورونا. نحن في المغرب مقارنة بفرنسا محظوظون جدا، فلدينا أقل نسبة إماتة وأعلى نسبة شفاء في العالم، بفضل البروتوكول العلاجي للدكتور راوولت الذي منعوا العلاج به في فرنسا بسبب دراسة تنكر لها حتى محرروها. والمصابون الذين يتم الكشف مؤخرا عنهم بالمغرب ويدخلون مراكز العلاج لا يعانون حتى من الحمى، ويتخلصون من الفيروس في وقت سريع بسبب فقدانه لشراسته. وحاليا في المغرب كله لدينا فقط 5 مرضى بكورونا في وضعية حرجة، 5 فقط منهم يوجدون تحت التنفس الاصطناعي، نتمنى لهم الشفاء العاجل. اليوم ليس كورونا ما يهدد المغرب بل البطالة. سيفقد المغرب خلال الثلاثة أشهر التي قضيناها في الحجر حوالي 300.000 منصب شغل، هذا دون الحديث عن مئات الآلاف من المغاربة ستنخفض عائداتهم الشهرية. مما سيتسبب في هبوط حاد للاستهلاك وبالتالي انكماش الاقتصاد، وتبعات هذا الوضع أخطر بكثير من كورونا. لذلك فالحل بنظري الشخصي، وهو أيضا رأي فئة عريضة من المغاربة، هو السماح بالعودة التدريجية للحياة العادية بالموازاة مع تكثيف وتيرة الفحوصات ومع الحرص والتشدد في تطبيق التدابير الصحية وقواعد النظافة والتباعد الاجتماعي داخل أماكن العمل وفي الفضاءات العامة وأماكن التسوق والاصطياف والترفيه، وتنزيل تطبيق "وقايتنا" على هواتف المغاربة لمساعدة الجهات الصحية في ضبط المخالطين وتسهيل الوصول إليهم لحماية صحة البلد واقتصاده. ولكن أين رئيس الحكومة الذي يجب عليه أن يأتي أمام المغاربة ويقول لهم هذا ويشرح لهم السيناريوهات التي تتوقعها حكومته ولجنة اليقظة وكيف ستتعامل معها حال حدوث أحدها؟ عوض أن نشاهد فيديو لرئيس الحكومة يطمئن فيه المغاربة ويقدم لهم خطط الحكومة للأشهر الستة المقبلة رأينا كيف عممت كتائب حزبه الإلكترونية فيديو يعود لسنوات يظهر فيه العثماني وهو جالس فوق كرسي حلاق شعبي يقص له شعره منتظرا سماع نتائج الانتخابات. هذا يعني أن رئيس الحكومة، الذي يتعلم هو ووزراؤه "الحسانة فروس ليتامى"، كل اهتمامه منصب على الانتخابات المقبلة، فهناك مراسيم قوانين سوف تصدر لصالح فئات اجتماعية عريضة يعود الفضل في إخراجها من الرفوف إلى جائحة كورونا وليس إلى السياسيين. فهناك مراسيم قانون الإطار المتعلقة بالإعاقة التي سيستفيد منها أكثر من مليون مواطن يعاني من الإعاقة، سوف نرى جميلة مصلى وزيرة الأسرة والتضامن تتسابق لأخذ الكلمة لكي تظهر أنها كانت وراء هذا المرسوم، بعدما اختفت طيلة ثلاثة أشهر عن الأنظار. أما الأعجوبة محمد أمكراز وزير التشغيل فينتظر المناسبة للانقضاض على المايكروفون للحديث عن مراسيم التغطية الصحية لأصحاب المهن الحرة التي ظلت جامدة بمكتب وزراء البيجيدي لأكثر من سنتين والتي ينتظر أن يستفيد منها أكثر من 8 ملايين من الحرفيين وأصحاب الطاكسيات والصيادين، فضلا عن مراسيم التغطية الصحية الخاصة بعاملات البيوت المعلقة منذ الحكومة السابقة والتي ستستفيد منها 100 ألف عاملة. ثم هناك قرار فرض الانخراط الإجباري في صندوق الضمان الاجتماعي لأكثر من 400 ألف مستخدم في قطاع المقاهي، والذي سينسبونه لأنفسهم بينما كورونا هي صاحبة الفضل. أما عزيز رباح وزير الطاقة والمعادن فيستعد لنفخ صدره للحديث عن مراسيم قانون الماء الذي تمت المصادقة عليه منذ حكومة عبد الإله بنكيران في 2015 وظلت مركونة في الدواليب في عهد عبد القادر اعمارة، واليوم يتم تحريكها لكسب أصوات أكثر من مليون فلاح بالعالم القروي. كل هذه المراسيم التي تتعلق بحماية الوضعية الاجتماعية لملايين المستخدمين في قطاعات ظلت بدون تغطية اجتماعية سيخرجون تباعًا لكي ينسبوها لأنفسهم، والحال أن الفضل في نفض الغبار عنها يعود لكورونا التي أهدت إلينا عيوب نموذجنا التنموي ووضعت أصبعها على الجرح الذي ينزف في خاصرة الوطن منذ عقود طويلة.