يعود طرح هذا السؤال في الجزائر إلى زمن بعيد، وهو حاضر في النقاشات اليومية وفي مقالات الصحافة حيث يستعمل تعبير “السلطة” لوصف الجهة التي في يدها الحكم. ورغم الضبابية التي تتصل بهذا التعبير، إلا أننا نعلم أنه يحيل إلى آلية لممارسة سلطة الدولة، تحتل القيادة العسكرية مركزها. لقد شكل الجيش ولأسباب تاريخية، المنطلق الذي بنيت عليه الدولة الجزائرية، لكن النخبة العسكرية ضيعت فرصة أكتوبر 1988 للانسحاب من حقل الدولة. ورغم أن القيادة العسكرية التي استخلفت السيادة الشعبية لا تصرح رسميا بأنها هي مصدر السلطة عوض الناخبين، إلا أن الجميع يعلم أنها هي من يُعيّن الرئيس. كيف لنا إذا أن نُحلّل نظام الحكم الجزائري وهو يتعارض على هذا النحو مع النظام الدستوري؟ تقف العلوم السياسية قاصرة أمام تحدي دراسة النظام الجزائري، فهو يقع أكثر تحت نطاق الأنثروبولوجيا السياسية، التي تحوز أدوات مفهومية أقدر على تحليل علاقات السلطة الرسمية وغير الرسمية، وتنطلق من حقيقة مؤداها أن المؤسسات لا تستوعب وتحمل كل سلطة الدولة. لقد تحدث مسؤولون في أحزاب الإدارة خلال الأيام الأخيرة عن وجود “قوى غير دستورية” تتدخل في صناعة القرار السياسي. ما هي البنية الرسمية للدولة في الجزائر؟ من الناحية النظرية، يقود هذه الدولة رئيس، يتم انتخابه عن طريق الاقتراع العام، بعد حملة انتخابية تشارك فيها مختلف الأحزاب، بما فيها أحزاب المعارضة المصرح لها قانونا. يقوم هذا الرئيس بوضع سياسة تترجمها القوانين التي يصوَّت عليها في المجلس الشعبي الوطني، من طرف نواب تمّ انتخابهم هم كذلك من خلال الاقتراع العام. نظريا إذا، نحن أمام سلطة تنفيذية آتية من صندوق الاقتراع، وسلطة تشريعية مُمثلة للإرادة الشعبية، وسلطة قضائية مستقلة، مهمتها حماية الحقوق المدنية للمواطنين. بل يوجد كذلك، مجلس دستوري يسهر على مدى دستورية القوانين والمراسيم. الطرف الحامل لهذه البنية المؤسساتية هو أحزاب سياسية وظيفتها التعبير عن مختلف التيارات الايديولوجية للمجتمع، وتتنافس على السلطة التنفيذية عن طريق انتخابات حرة وتعددية. غير أنّ المشكل الوحيد هو أن هذا النموذج لا يتوافق بتاتا مع الواقع. فعبر تزوير الانتخابات، تقوم السلطة التنفيذية الموكلة من طرف القيادة العسكرية، بمنع الهيئة الانتخابية من اختيار ممثليها. ورغم أن الاصلاح الدستوري الذي تحقق في فيفري 1989 أنهى نظام الحزب الواحد، إلا أن نظام الحكم عمل على تشويه التعددية بتزوير الانتخابات كآلية لمنع التداول على السلطة. لم تكن التعددية إلا واجهة، استمر الجيش من وراءها في لعب دور مصدر السلطة، عوض الهيئة الانتخابية. إذا كان نظام الحكم لمرحلة ما بعد 1988 على وشك الانهيار، فذلك يعود لافتقاده للانسجام السياسي-الايديولوجي. وبالمقارنة، نجد أنّ نظام بومدين كان أكثر انسجاما، حيث أن هذا الأخير كان يقول: "لقد كلفني الشهداء بقيادة الشعب لأجل إسعاده، وعليه فأنا هو الدولة وعلى كل رافض لهذا الأمر أن يغادر البلد". إنّ سلطوية بومدين منسجمة وواضحة، ولم تكن في حاجة لإثقال نفسها والتواري وراء دستور منقول عن دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي. لقد استمر نموذج بومدين بعد وفاة مؤسسه ولكن بتعددية مزيفة. بطبيعة الحال، لا يتدخل العسكر بصفتهم عسكرا وعلى نحو مباشر في حقل الدولة، فلجنرالات قيادة الأركان مهام أخرى يؤدونها، مثل رعاية المستوى العملياتي للقوات؛ لذا أوكلوا لمديرية الاستعلام مهمة إدارة الحقل السياسي. باستثناء الرئيس الذي تُعيّنه القيادة العليا للجيش، تتكفل هذه المديرية DRS سابقا بتعيين الوزير الأول والإشراف بمعيّة الرئيس على تشكيل الحكومة. ولقد جاءت التصريحات الأخيرة لعمار سعيداني على موقع TSA لتؤكد ذلك. فأويحيى عيّن من طرف مديرية الاستعلام والأمن كوزير أول، ما يعني أن بوتفليقة لا يعين الوزير الأول، ولا يختار فريقه الوزاري. بل أن كل المقربين منه تم إبعادهم عن الحكومة: بلخادم، وزرهوني، وولد عباس، وبن أشنهو. تعمل مديرية الاستعلام والأمن كذلك على فَلْتَرة قوائم المترشحين للمناصب المنتخبة، الوطنية والمحلية (المجلس الشعبي الوطني، المجلس الشعبي الولائي والمجلس الشعبي البلدي)، وهي من يقرر نتائج الانتخابات بإعطاء كل حزب حصته من المقاعد، مقابل الولاء للسلطة الإدارية. كما أن من مهام هذا الجهاز اختراق كل مؤسسات الدولة (الشرطة، الجمارك، الدرك …)، بهدف ضمان عدم خروج أيّ من الموظفين على القاعدة غير المكتوبة للنظام السياسي الجزائري وهي: الجيش هو المصدر الوحيد للسلطة. يقوم هذا الجهاز السياسي للجيش كذلك، باختراق أحزاب المعارضة، بغرض إضعافها من الداخل عبر خلق أزمات في مستوياتها القيادية. وآخر حزب وقع ضحية لهذا الأمر هو جبهة القوى الاشتراكية. ويتسع نطاق عمل هذا الجهاز ليشمل الصحافة أيضا حيث يستعمل الإشهار كطريقة للابتزاز. إن مهمة مديرية الاستعلام والأمن هي تحييد المجتمع سياسيا لتبقى هي التعبير السياسي الوحيد، المنحدر طبعا من القيادة العسكرية. لقد أمكن لهذا النموذج أن يعمل خلال سنوات السبعينيات، لأنه لم يكن يوجد آنذاك سوى 40 عقيد، غير أن اشتغاله اليوم صار غير ممكنا بوجود 500 جنرال، يحتلون على نحو متباين مساحة من سلطة الدولة، وتتصل بكل واحد منهم شبكة من الزبائن الذين يتصارعون على حصص من الريع البترولي. إن الفوضى العسكرية في أعلى هرم الدولة منعت هذه الأخيرة من العمل وفق مؤسساتها الرسمية؛ وقضية عبد المجيد تبون خير دليل على ذلك. بعد إلغاء نتائج تشريعيات ديسمبر 1992 من طرف الجنرالات الينايريين، أصبح لجهاز الاستعلام والأمن DRS دورا استراتيجيا في مكافحة الإرهاب، مما أعطاه في ما بعد دورا كبيرا في عملية صناعة القرار السياسي. ومع مرور السنوات، استقل هذا الجهاز بشكل نهائي عن قيادة الأركان التي يرتبط بها تنظيميا. أصبح العديد من الجنرالات يشتكون من تركز الصلاحيات والسلطة بين أيدي ضباط الاستخبارات، خاصة قائدها توفيق مدين المعروف أيضا باسم "رب الدزاير". قسم صراع حاد القيادة العسكرية، خاصة وأن ضباط الاستعلامات والأمن يشغلون مناصب مفتاحية داخل حلقة توزيع وتقسيم الريع البترولي. ظهر الصراع بين ضباط الاستعلامات وقيادة الأركان إلى العلن عقب الهجوم على المركب الغازي في تيكنتورين سنة 2013، وحسب بعض المعلومات التي يتم تداولها في العاصمة الجزائر، فإن قيادة الأركان تتهم ال DRS إما أنه كان وراء التلاعب ببعض الإسلاميين المتشددين للتخطيط للهجوم على المركب الغازي( وهو ما صرح به عمار سعيداني)، وإما أنه فشل في منع وقوع الهجوم وحماية المنشآت الاستراتيجية، مصدر المداخيل الريعية للجزائر. ولهذا، قررت قيادة أركان الجيش إعادة تنظيم وهيكلة الجهاز بعد إحالة عدة جنرالات فيه على التقاعد. بل إن أحدهم ( الجنرال حسان واعرابي) حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة خمس سنوات. ولكن قيادة أركان الجيش لم تعلم الرأي العام الجزائري حول الأسباب الحقيقية لعملية إعادة الهيكلة هذه. بل طُلب من عمار سعيداني، الأمين العام للأفلان آنذاك، بمهاجمة الجنرال توفيق مدين واتهامه بأنه يقف ضد بناء دولة القانون وحرية الصحافة واستقلالية القضاء. علق طالب في العلوم السياسية على صفحته في فيسبوك ساخرا: "على رأس جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني الذي وجد الوقت الكافي لقراءة جون جاك روسو !". بعد إعادة هيكلة DRS، أقيل سعيداني من على رأس الأفلان(جبهة التحرير الوطني). بعد هذه الأحداث، تم تقسيم جهاز الاستعلام إلى قسمين: قسم لمكافحة الجوسسة وحماية المصالح الوطنية من التدخلات الخارجية، وقسم آخر أوكلت قيادته الى الجنرال بشير طرطاق مهمته تسيير المجتمع المدني ومراقبة موظفي وإطارات الدولة، وكان مقر مكتب بشير طرطاق في رئاسة الجمهورية لإظهار أنه تحت سلطة الرئيس. في الواقع، يقف جهاز الاستعلام والأمن وراء الترويج لفكرة أن الرئيس بوتفليقة استطاع ترويض الجيش والسيطرة عليه. فقبل أن يحيل الجنرال توفيق على التقاعدّ، كان قد استطاع إنهاء مهام الجنرال العماري. ولكن الحقيقة هي أن هذا الأخير أقيل بسبب تصريحات أدلى بها ليومية الأهرام المصرية، ولأسبوعية le Point الفرنسية سنة 2004 قال فيها بأن الجيش فوق الرئيس. لا يريد الجنرالات، الذين يمتلكون سلطة فوق الرئيس، أن يعلم الناس بهذه الحقيقة. تهدف هذه الدعاية إلى إخفاء طبيعة النظام الجزائري، حيث القيادة العسكرية تمتلك وتمارس السلطة الفعلية. صحيح بأنه توجد عصبة تابعة لبوتفليقة، تتشكل من إخوته، رجال أعمال ومستوردين، ويمتلك هذا الجناح سلطة إقالة مسوؤل ما في الجمارك يرفض خرق القانون، أو إنهاء مهام والي عينه جناح منافس لهم، أو تحويل قاضي محكمة ما إلى الجنوب بسبب اصراراه على تطبيق القانون، أو إعاقة وتجميد عمل أحد المستثمرين مثل ما حدث مع مجمع سيفيتال(لصاحبه يسعد ربراب)، ولكن السلطة ليست هي القدرة على خرق القانون. أشكال التعسف بالقانون هذه ما كانت لتحدث لولا أن الجيش لم يرفض استقلالية القضاء. إن جناح بوتفليقة نشأ وامتد تحت ظل النظام السياسي الذي يحتل مركزه الجيش. لقد أعطى الميلاد لبورجوازية مالية شرسة ومفترسة تتغذى من أموال الصفقات العمومية، في شراكة مع أبناء جنرالات ينشطون في التجارة والاستيراد. أين نحن اليوم وكيف نخرج من الأزمة الحالية؟ إن القيادة العسكرية، التي تتكون من ضباط شباب ولدوا في الخمسينات والستينات يجب عليهم أن يستجيبوا إلى مطالب تغيير النظام التي عبر عنها ملايين الجزائريين. يجب عليها أن لا تكرر نفس الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها القيادة السابقة التي قامت بأربع انقلابات عسكرية( 1962، 1965، 1979، 1992 ) ، وقتلت رئيسا ، ودفعت اثنان إلى الاستقالة. إن تطور المجتمع الجزائري يتطلب إعادة تصحيح هياكل الدولة لتستجيب للتحولات الثقافية والاجتماعية التي طرأت خلال السنوات الأخيرة. وإذا ما رفض النظام تنفيذ هذا التصحيح، فإن الحركة الاحتجاجية سوف تتجذر أكثر وسيسيل الكثير من الدم. الجنرالات الشباب يجب أن يكونوا على قدر المهمة التاريخية التي أمامهم.