من ميدان التحرير في وسط القاهرة ، أشعل الشباب المصري شرارة ثورته السلمية ، قبل أن يحتضنها شعب الكنانة بأكمله ، لتصبح فيما بعد ثورة شعبية شاملة ، شاركت فيها مختلف الطبقات الاجتماعية جنبا إلى جنب : الصعيدي مع القاهري – الطالب مع الطبيب – المسيحي / المسلم – العاطل / العامل – المحجبة / السافرة – العلماني / المتدين – الصادق / المنافق . من هذا الميدان ( الذي سيصبح بكل تأكيد ، مزارا لكل قاصدي مصر) استطاع الشعب استرداد شرعيته من نظام إسمنتي مسلح بطريقة حضارية ومسالمة. لم تخف الشرطة بطشا قل نظيره أمام العالم ، في تعاملها مع المتظاهرين ، ووقف الجيش محايدا بين الطرفين ، حياد أثار في كثير من الأحيان استغرابا ، وطرح أكثر من علامة استفهام ، من دون أن يشكك أحد في وطنيته . وجاء صوت مهموم من وراء الغيم أحرق مبارك قاهرة(ه) روما تتفحم تحت أعين السماء ونيرون ينادم كأسه الأخير تيبس الأمل في الجفون تحجرت الكلمات في الحناجر واحترقت في الصعيد كل السنابل تابع يا نيل سيرك.... على هواك وارحلي يا مصر ...إن شئت أنا لست ....راحل!!. هكذا أظهر مبارك عنادا مختلفا ، معلنا عدة لاءات وبأشكال مختلفة : (لا أقرأ – لا أسمع – لا أرى – لا أفهم – لا أرحل – ...) قبل أن يصرح لبعض معاونيه أن له درجة دكتوراه في العناد !!. هذا العناد هو من أطال في عمر الانتفاضة ، وحولها مع مرور الوقت إلى ثورة شعبية شاملة ، تنوعت معها الشعارات وارتفع معها سقف المطالب إلى أعلى مستوياته : ” ارحل...” ثم ” الشعب يريد إسقاط النظام ” و ” الشعب يريد محاكمة الرئيس” مع ذروة الغضب. من ثورة الضباط الأحرار سنة 1952 إلى ثورة الشباب سنة 2011 عاش الشعب المصري أصعب الفترات طيلة حكم مبارك ( 30 سنة ) أضاع فيها على مصر الكثير من فرص النمو والارتقاء إلى مراتب الدول المتقدمة . فترة طويلة من الفساد والإفساد استهلكت ودجنت فيها النخب بكل فئاتها ( سياسية – أدبية – صحافية – مالية – فنية -...) لتشكل فيما بعد ما يشبه العصابة. فشكرا لعناد مبارك ، الذي كان له الفضل الكبير في إنجاح الثورة المصرية المجيدة . لا يهم بعد الآن إلى أي حد ستنجح هذه الثورة في بلورة رؤيتها وتحقيق أهدافها ، يكفي فخرا أنها أطاحت بصنم من أصنام الشرق الأوسط ، وبفرعون مصر الجديد / القديم ، الذي فوت علينا كعرب كثيرا من فرص الوحدة والتضامن ، نظرا للدور المحوري الذي تلعبه مصر كقوة إقليمية في العالم العربي و الشرق الأوسط . شاءوا إذن لأبناء هذا الشعب ومعه أبناء الأمة العربية أن يكونوا قطعان أغنام ، وشاء هذا الشباب المصري ( الذي أدهش العالم) ومن ورائه مصر بكاملها ، أن يطيح بنظام بوليسي حديدي مستبد ليصبح حرا ، فكان له ما أراد. ثورة التكنولوجيا بدأت من تونس الصغيرة جغرافيا ( الفايس بوك – التويتر- اليوتوب-....) فأسقطت بن علي وألهمت حماسة الشباب المصري ، فأطاح بحسني مبارك من بعده . والأكيد أنها لن تتوقف بعد اليوم في العالم العربي ، فعلى من سيكون دور الفرار من عبدة الكراسي في عالمنا العربي ؟. جمال عبد الناصر كان يقول دائما : ” إن بناء أي شيء سهل ، لكن بناء الإنسان هو الصعب ” و كان زايد بن سلطان آل نهيان يقولها من بعده على طريقته الخاصة : ” إن بناء الرجال أصعب من بناء المصانع”. لكن النظام المصري لم يبن مصانعا ولا إنسانا ، حتى هؤلاء الشباب المتظاهر أغلبهم تعلم في دول أجنبية كأمريكا وكندا وغيرها من الدول الغربية . كل ما فعله نظام حسني مبارك ، هو أنه خرب العقل المصري وفكك روابط جسد الشعب المصري المتماسك ، فأصبحنا نستيقظ كل صباح على تفجير كنيسة أو مسجد ، يكون بطلها النظام في الخفاء ، والمتهم طبيبا أو مهندسا في الظاهر، والضحية متدينون من هذا الطرف أو ذاك ، كما حدث في تفجير كنيسة الإسكندرية ، الذي نسب إلى مشتبهين (منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) ، ودخل الإرهاب على الخط كفزاعة ، و معه إسرائيل كمتهم و داعم في نفس الآن قصد تشتيت الرؤية ، ليتبين فيما بعد ووفق الشهود ، أن التفجير كان من تخطيط وتنفيذ أجهزة نظام مبارك نفسه !!. هكذا كان يصنع النظام جرائمه ، ويوظفها للتفريق بين المسلمين والمسيحيين ، ومن هذه الفرقة كان يستمد شرعيته واستمراره. وعلى غرار نظرية غاندي في المقاومة ، رفع الشباب شعارا مسالما : (سلمية ...سلمية ) فلم يكسر واجهة ، ولا خرب ملكا عاما أو خاصا ، ولا أحرق مركزا للشرطة ، باعتراف ضباط الشرطة المصرية أنفسهم ، ولا تحرش بفتاة في شارع أو زقاق . لم يتبادلوا الضرب مع شرطة مسعورة ، أشبعت رئاتهم بالغازات المسيلة للدموع ، وكسرت أضلعا استقبلت هراواتهم من أجل مصر التي يعشقونها . وجاء رد نظام مبارك واضحا : ( الخيل والليل والبيداء تعرفني / والسيف والرمح...) ، فأرسل حميره وجماله وبغاله إلي ميدان التحرير ، في مظهر أعاد مصر الحضارة إلى ما قبل الحضارة. ثورة 25 يناير 2011م كانت ثورة إبداع بكل المقاييس ، أعادت مصر إلى نفسها ، وأطاحت بكل المظاهر النخبوية التي عمل النظام على تكريسها بين أفراد المجتمع المصري طيلة 30 سنة .هي وحدها من أسقط قناع ديمقراطية الغرب المزدوجة ، الذي لم يكن همها من هذه الثورة ، أكثر من الحفاظ على معاهدات مصر الدولية ، والمقصود هنا واضح ( معاهدة ” السلام” مع إسرائيل). لا مجال لذكر أسماء المنافقين والأفاقين والمرتزقة السفلة (خلاص.!!) ، فكثير منها سقطت بسقوط مبارك ، وما تبقى منها وتلون أو قلب رأيه 180 درجة ، سيتساقط لوحده مع مرور الوقت كأوراق الخريف ، سوف يتناساها التاريخ سريعا ، ولن يسمح لها حتى بدخول مزبلته ، فالثورة أكبر من أن تلتفت إلى الوراء . كان للنظام المصري وعلى رأسه مبارك خيارات كثيرة ، كي يستمع إلى نبض الشباب ويلبي بعض مطالبه البسيطة ، ويرضي جماهير الشعب التي لم تكن تريد أكثر من تعديل بعض فقرات الدستور ورفع بعض المظالم. لكن مبارك (الحامل لدكتوراه في العناد) ، لم يكن في حسبانه أن سوء العاقبة تنتظره في سماء القاهرة . و كأي ثورة في العالم ، النوايا الحسنة هنا وحدها لا تكفي ، لم يكن طموح الشباب الثائر في مصر إسقاط مبارك فقط ، بل ومعه نظامه بكل ترساناته الإسمنتية المشبعة بالحديد. هناك الآن أكثر من سيناريو للخروج من الأزمة ، فأي منها سيختار الجيش المصري ، بعيدا عن الضغوطات الغربية عموما والأمريكية على وجه التحديد ؟. كيف سيتعامل الجيش مع أجنحة الحركات الشبابية الجديدة ، المتمثلة في الشباب الواعي جدا / المسالم جدا والمسيس جدا ، حتى وهو ينأى بنفسه عن السياسة . كيف تتعامل مصر الجديدة (الجمهورية الثانية) مع ائتلاف شباب الثورة صاحب الحق في اتخاذ القرار ، ومع بعض الأحزاب القديمة ، وهي التي لم تخف انحيازها للنظام الفاسد ، فسال لعابها وهرولت إلى السلطة ، بعد أول خطاب لمبارك ، قبل أن تنقلب على أعقابها فيما بعد 180 درجة للمرة الثانية ، حين حسمت الثورة الأمر لصالحها ؟.