كم هو سهل البحث عن مسوغات لمراجعة قرار ما أو نداء ما, وكم هو صعب سبر أغواره والبحث عن الخلفيات والنتائج وحدوده. مناسبة هذا الكلام مقال الأستاذ محمد لبريني الذي دعا إلى مراجعة الوطن غفور رحيم بحجة الخطر الإرهابي الزاحف من شمال مالي وواقع الحال من مخيمات تندوف حيث الرتابة وضيق الأفق اليأس و الإحباط وهي كلها عوامل تجعل مخيمات تندوف , بالفعل مرتعا خصبا تتغذى عليه الحركات الإرهابية في الساحل والصحراء لكن , هل الجواب السياسي عن تداعيات ما بات يعرف ب “أزمة الساحل والصحراء ” والتي لا شك ترخي ظلالها على المنطقة ككل يمكن في مجرد دعوة إلى اتخاذ المحاذير الأمنية اللازمة وصرامة التعامل وتحذير الفارين من مخيمات تندوف ؟ أولم يكن أولى بالسيد البريني أن يتساءل عن تداعيات ما يعتمل اليوم في الساحل والصحراء على ملف وحدتنا الترابية والوطنية في أبعاده المختلفة وطنيا إقليميا ودوليا ؟ أو ليس اللحظة تستدعي رص الصفوف وتنقية الأجواء وتقوية الجبهة الداخلية لمواجهة التجاذبات الإقليمية الطارئة والمقاربة الأممية الجديدة الساعية الى حلحلة الأوضاع السياسية في المنطقة وإخراج ملف الصحراء من حالة الجمود وتجاوز مأزق حالة اللاحرب واللاسلم ؟ بدل طرح الرهانات الحقيقية التي تفرض نفسها أمام منعطف جديد يدخله ملف الصحراء ,اختار الأستاذ البريني قراءة اختزالية أو سعيدة للأحداث , بتعبير عبد الصمد ديالمي , يغيب فيها قلق استشعار دقة المرحلة والمتغيرات الجديدة ” لنزاع الصحراء ” , وإن لم يكن بإمكان هذه القراءة أن تحجب عن المهتم عمق المشكل وخطورته في بعديه السياسي والإنساني . لذلك كان الملك الحسن الثاني , رحمه الله , والمعروف بحنكته وحكمته وحدسه السياسي , صائبا عندما أعلن نداء ” الوطن غفور رحيم ” الذي خلق نزيفا بشريا مس مختلف التشكيلات المكونة لساكنة المخيمات , حيث استجاب لهذا النداء القيادي والمقاتل والانسان البسيط , ولم تقتصر العودة على فئة عمرية معينة بل شملت سائر الفئات من الصبي الى اليافع والشاب وحتى الشيخ الهرم . وعرفت الاستجابة لهذا النداء تناميا في السنوات الماضية بخاصية تتمثل في كوننا أصبحنا أمام جيل من الشباب العائد الذي ولد وترعرع في مخيمات تندوف . لم يعش لحظات التأسيس لمشروع الانفصال ولم يواكب زمن الحرب الحالك , وغير محكوم أصلا بنوستالجيا العودة إلى مجال لم يعرفه قط , بل يجهله تماما , إذ فتح عينيه وتفتق وعيه في أرض غير أرضه الأصلية والتي لا يمثلها إلا من خلال حكايات تروى وأفكار شحن بها . هذا التشخيص لا يمكنه ان يكتمل إلا إذا استحضرنا إكراهات الاندماج أو الإدماج التي اصطدم بها العائدون , وهي كثيرة ومتعددة , لعل أخطرها ليس مواجهة أشخاص ” مندسين ” أو مجندين من قبل الأعداء , بل يكمن في معالجة إشكالية إدماج هؤلاء , والذين يتقاضى أغلبهم رواتب من ميزانية الإنعاش الوطني , والتي لا تفي بحاجياتهم الأساسية , مما يؤدي إلى بعض الإنزلاقات نتيجة سخط على واقع لا يرضونه , علما بأنه سبق لهم أن خضعوا لتاطير سياسي على مدى سنوات عديدة , كما يجد بعضهم نفسه في عزلة تامة من قبل المجتمع والإدارة على حد سواء . لذلك فإن الأسئلة الملحة , بل والحارقة , تكمن اليوم في كيفية مواصلة سياسة إدماج العائدين وإرساء الميكانيزمات الضرورية التي تكون صمام أمان للوطن من جهة وتيسر العودة من جهة أخرى , بل إن الرهان الحقيقي هو توفير البنيات الاستقبالية الضرورية ” للاجئي تندوف ” إذ العودة إلى الوطن تبقى حتمية , سواء قسا الوطن أو كان رحيما . إن من لم تكتوي بنار الفرقة والشتات ولم يجرب أو يعيش اشتداد هجير صحراء تندوف , ولم يلتحف السماء في خيمة تهزها الرياح تارة والقيظ طورا لا يمكنه إلا أن يختبئ وراء الشجرة التي تخفي الغابة كما يقال , مع فارق أن الصحراء مجال مكشوف , عار تماما , لا معالم فيه على الطريق سوى نجوم معلقة فالسماء يهتدي بها الصحراوي بحثا عن مسلك أو سبيل , فمنهم من ” ضل الطريق ” ومنهم من “اهتدى ” وما بدل تبديلا . ويبقى فقط أن نهمس في أذن الأستاذ البريني , من باب التذكير وإن اختلف السياق والظروف , بان فلسفة نداء ” الوطن غفور رحيم ” لم تكن في يوم من الأيام حكرا على ” لاجئي تندوف ” بل شملت كل المغاربة المعنيين , فمنهم ” الجمهوري ” العائد من منفاه الأوروبي , ومنهم العائد من اليسار الراديكالي او العائد من التنظيمات الإسلامية المتطرفة , غير أن العلامة الفارقة بين هؤلاء هي أن هؤلاء استطابوا نعيم ” رحمة هذا الوطن ” وتسلقوا أعلى مراتب السلم الاجتماعي إلى درجة تبوأ مقاليد تدبير شؤون العامة لهذا الوطن , بينما اكتفى أغلب الآخرين ب ” ثواب الغفران ” ليواصلوا الكد والكدح عساهم يظفرون يوما ب ” نعيم رحمة الوطن “ .