قدم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لأقوى دولة في العالم استقالته من منصبه بسبب علاقة غير شرعية مع كاتبته وهو سبب في البلاد المتخلفة وحتى في البلدان التي يرتفع فيها صياح من يسمون أنفسهم حداثيين و علمانيين لا يوجب الاستقالة، لكنه في بلد تعرف معنى الديمقراطية يعتبر سببا وجيها للاستقالة، وقد سبقه بيل كلينتون وغيره كثير، فمجرد علاقة عابرة خارج الإطار الشرعي أو تحرش جنسي كما وقع ل "ستراوس كان" يؤدي بصاحبه إلى الخروج من مركز المسؤولية من بابه الواسع، ولئن كانت الاستقالة ثقافة مترسخة في الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها وتحترم شعوبها، ويمكن لأي مسؤول أن يستقيل من مهامه لمجرد أي خطأ سواء كان مسؤولا مباشرا عنه أو لا، فإن هذه الثقافة تعتبر غريبة عنا ونحتاج لوقت غير يسير لتترسخ في عقول مسؤولينا، وكذلك في عقول رؤساء الأحزاب الذين لا يغيرهم سوى الموت أو المرض الشديد أو توافق سياسي أو...أو... رغم أنها ليست مستحيلة.
فلم يسبق لنا أن شاهدنا مسؤولا ما يستقيل من منصبه لأنه لم يستطع القيام بواجبه على أكمل وجه، ولم يسبق أن قام وزير بالاستقالة لأنه لم يستطع تدبير القطاع الموكول إليه كما ينبغي، ولم نسمع أن أمين حزب ما استقال لأنه فشل في تدبير أمور حزبه ولم يستطع حزبه أن يحرز نتائج مشرفة، ولم نسمع حتى بمدرب فريق استقال لأنه لم يحقق فريقه النتائج المرجوة وذلك أضعف الإيمان.
وبما أننا نعيش في زمن الأنترنيت والفضاء المفتوح وأنه يكفي أن يتعثر فنان فوق سجاد أحمر حتى تتناقل صوره وسائل الإعلام في كل أنحاء الدنيا، فما بالك بمسؤول سياسي، ويكفي أن تشتعل الثورة في بلد ما حتى تشتعل في تلابيب ثياب جارتها وهكذا دواليك، خصوصا في عالمنا العربي، ولئن كانت العديد من الأصوات لا تمل من تشنيف مسامعنا بدروس عن الحريات الفردية و"غربنة" المجتمع فإنه كان من اللازم عليها الدعوة إلى استيراد ثقافة الاستقالة من المسؤولية، وهذا بالضبط ما جاء في الدستور الجديد الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة، وبمعنى آخر إذا لم يرد أي مسؤول أن يحاسب فإنه من اللازم عليه أن يقدم استقالته ويعترف بعجزه أو تقصيره في تحمل المسؤولية، ولا يتدرع بجيوب المقاومة وغيرها، وإذا كانت هناك جيوب فيجب عليه فضحها حتى يقوم الشعب بمساندته وبالتالي تخييط هذه الجيوب.
ما وقع في مصر مؤخرا يعتبر درسا لحكومتنا الحالية ولمن سيأتي من بعدها، فاستقالة وزير النقل المصري على إثر حادثة سير راح ضحيتها العشرات من التلاميذ، وتحمله المسؤولية السياسية للحادث يعتبر تغييرا في ثقافة بعض المسؤولين الذين مسكوا زمام الأمور فيما بعد الثورة، وهذا هو المرجو من وراء جميع الثورات، التأسيس لثقافة جديدة وليس التمادي في السياسة القديمة، وهذا يدل على أن الشعوب العربية بإمكانها استيراد ثقافة بناءة، وأن الثورة لم تأت ليبقى الإنسان ثائرا فقط، فنحن في حاجة إلى ثورات لكن ليست بالمفهوم الذي يتبناه البعض القائم على العنف والتخريب، بل ثورات ثقافية وعلمية وفنية ورياضية... تخرجنا من حالة الملل والركود التي نعيش فيها، وتخرجنا من حالة التخلف التي نغرق فيها.
هي إذن دعوة إلى وزراءنا ومسؤولينا بأن يتبنوا هذه الثقافة ويطبقوها في الواقع، فالإستقالة خير من أن يأتي يوم يقال للمسؤول فيه "إرحل".