داخل بيته القريب من قوس النصر، في قلب العاصمة الفرنسية باريس، التقت «المساء» عبد الحليم خدام.. أكثر العارفين بخبايا الملف السوري، فهو الذي لازم الرئيسين حافظ وبشار الأسد كنائب لهما ووزير لخارجيتهما، مكلفا باثنين من أكثر ملفات الشرق الأوسط خطورة وغموضا: الملف اللبناني والملف العراقي. اعترف عبد الحليم خدام، فوق كرسي «المساء»، بأسرار علاقته بنظام الأب والابن «المغرق في الفساد والاستبداد»؛ حكى عن هوس حافظ الأسد بتوريث الحكم لأفراد عائلته، وكيف سعى بشار الأسد إلى مجالسته، حيث بدأ ينتقد نظام والده، وهو يناديه «عمي عبد الحليم». كما استحضر اللحظة التي وجد نفسه فيها رئيسا للجمهورية بعد وفاة حافظ الأسد، وكواليس تعديل الدستور ليصبح بشار رئيسا للبلد، وكيف قرر الخروج من سوريا والتحول إلى أكبر عدو لنظام قال إنه يخطط لإقامة دويلة في الساحل، حيث الأغلبية العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد. كما تحدث عبد الحليم خدام عن علاقته بالحسن الثاني والمهدي بنبركة وكيف تحول الموقف السوري من قضية الصحراء وقال بأن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يتخلص من فكر سالفه هواري بومدين. - لو كنت بقيت في النظام السوري إلى جانب بشار الأسد حتى قيام الثورة، ما الذي كنت ستنصحه به؟ بالتأكيد، لو كنت بقيت في النظام أزاول صلاحياتي المحددة لي بالقانون لكان من الصعب على بشار الأسد أن يقدم على هذه الجرائم، ولقلت له أنت تدفع البلاد باتجاه الدمار، أنت جئت إلى السلطة وكنت تقول إنك ستقوم بإصلاحات وتعمل على تأسيس انفتاح سياسي ديمقراطي وإصلاح اقتصادي، وبالتالي فإن أي عمل يرتكز على استعمال القوة والاضطهاد والقتل سوف ينهيك ويضعك في قفص الاتهام. - هل سبق، أثناء شغلك منصب نائب الرئيس السوري، أن قدمت نصيحة مماثلة إلى بشار الأسد؟ أنا لم أكن أعرف بشار الأسد، وأول مرة التقيت به في حياتي كانت قبل وفاة حافظ الأسد بسنة، حين جاءني ثلاثة أصدقاء ورجوني أن أستقبل بشار الأسد وأستمع إليه. - من هم الأصدقاء الثلاثة الذين رجوك لاستقبال بشار الأسد؟ هم غازي كنعان، مدير المخابرات السورية في لبنان، والعماد ابراهيم الصافي، أحد قادة الجيش السوري، وعز الدين الناصر، رئيس اتحاد العمال. - ما الذي قلته لبشار في هذا اللقاء؟ استقبلته وتركته يتحدث، فقد كنت أريد أن أعرف كيف يفكر هذا الشاب الذي ستبتلى به سوريا، وفعلا تحدث حديثا طويلا، لحوالي ساعتين، عن رؤيته للمستقبل وكيف أنه يجب الخروج من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي.. - هل انتقد تجربة والده؟ طبعا، انتقد تجربة والده، وتحدث عن الحريات، وكيف أن الحرية تماشي المجتمع وتطلق المبادرات، كما تحدث عن الديمقراطية وأهمية دور الشعب في ممارسة السلطة، وتحدث عن الإصلاح الاقتصادي ودور الفساد القائم في سوريا، علما بأن من يقود الفساد هم عمومته وخاله. - هل توسمت فيه خيرا حينها؟ عندئذ، توقعت أنه من الممكن لبشار، وهو في اندفاع الشباب، أن يخطو مثل هذه الخطوات، لكن بقي لدي بعض الشك لأنني أعرف أنه معجب بوالده، وبالتالي سيأخذ منه الكثير مما كان يكرهه فيه السوريون. - هل كان حديثه أمامك عن الإصلاح والفساد مجرد تكتيك وإعلان نوايا مطمئنة لتسلم السلطة؟ أنا أعتقد أنه في تلك المرحلة كان يتحدث بحماس ولم يكن يعرف ما هي السلطة ومسؤولياتها، وهو ما حدث بالفعل؛ فقد التقيت به لاحقا لمرات، لكنني لمست في إحدى هذه المرات أنه يكذب وغير صادق ويقول اليوم شيئا وفي الغد يمارس عكسه. - ما هي المهام السياسية التي كان بشار مكلفا بها حينها؟ عندئذ لم تكن له مسؤوليات رسمية، ولكن كان والده يكلفه بمهام، فقد كلفه مثلا بالملف اللبناني؛ ذلك أنه بعد انتخاب العماد إيميل لحود رئيسا لجمهورية لبنان، اعتذرت أنا عن الاستمرار في الإمساك بالملف اللبناني لكوني كنت أعتقد أن العماد لحود لا يصلح لهذا الموقع، لكن الرئيس حافظ الأسد أصر على دعمه وهكذا جاء إلى الرئاسة؛ ولحود يعرف أنني كنت أعارض مجيئه، وبالتالي لم يكن من المناسب والمعقول أن أستمر في إمساك هذا الملف، هكذا عهد حافظ الأسد بالملف اللبناني إلى ابنه بشار الذي وجد نفسه محاطا بمجموعة من اللبنانيين الذين كان لهم دور كبير في توجيهه خلال اشتغاله على الملف اللبناني. - استبعدت سقوط النظام السوري بالمظاهرات الشعبية وطالبت، في المقابل، بتدخل عسكري دولي؛ ألا تخشى من تكرار النموذج الليبي؟ في الواقع، أنا طالبت بإسقاط النظام السوري منذ انشقاقي عنه في أواخر دجنبر 2005 وبقيت أعمل بما لدي من وسائل لتحقيق ذلك. انطلقت الثورة في سوريا، ولم تكن ثورة حزب أو مجموعة أشخاص، بل كانت عبارة عن براكين محتقنة تحت الأرض انفجرت. ومن هنا، فالكثير من الناس، وأنا منهم، كنا نتوقع أن يقدم بشار الأسد على الاستقالة بعد أن شاهد الجموع الكبير من السوريين تخرج في كل مناطق البلد مطالبة برحيله، لكنه لم يفعل. - هل كنت تتوقع بهذه السهولة، وأنت رجل دولة، أن يستقيل بشار الأسد؟ لأنه إذا لم يستقل فسيكون أمام خيارين: إما استخدام العنف وهذا سينهيه بشكل من الأشكال، أو الاستمرار في التظاهر، وهذا سيؤدي إلى أن يدخل الناس يوما إلى قصره ويقتلعوه. - هذان الخياران يأتيان عن طريق الثورة الشعبية، وليس عن طريق تدخل الدول الكبرى عسكريا كما أصبحت تقول الآن؟ في البدء كانت التظاهرات سلمية وانطلقت كردة فعل على الممارسات الأمنية، وقد بدأت هذه التظاهرات في دمشق ثم في حوران، وفي درعا تحديدا تم اعتقال مجموعة من الفتيان كانوا يكتبون على الجدران عبارات تطالب برحيل بشار الأسد عن السلطة، فذهب أهالي هؤلاء الفتيان إلى المحافظ، وكان حاضرا رئيس فرع الأمن، وطالبوه بإطلاق سراح أبنائهم لأن كبيرهم لم يكن يتعدى 14 سنة. - كانوا أطفالا؟ نعم، كانوا أطفالا، فتصدى لهم رئيس الأمن وخاطبهم بكلام ناب ومسيء إلى الكرامة وفيه الكثير من التهديد، فخرجوا من عنده، وفي اليوم الموالي اشتعلت مظاهرة في درعا، فأقدم النظام على إرسال مجموعة من المغاوير بطائرات الهيلكوبتر وتصدوا لهذه المظاهرات وقُتل العديد من السوريين، وفي اليوم الثالث اشتعلت مظاهرات في مدينة بانياس دعما لدرعا، وخرج الناس من المدينة والقرى في مظاهرة لم يسبق لهذه المدينة أن عرفت مثيلا لها، وتصدى لهم الأمن فسقط العديد من الشهداء، ثم انتقلت الاحتجاجات مباشرة إلى مدينة اللاذقية في الساحل ثم إلى ريف دمشق، وبالتالي إلى حمص وحماة وسائر المدن السورية. وفي كل هذا، لم تكن هناك قيادات مركزية للثورة تخطط لها، بل كل ما كان هناك قيادات محلية متعددة بتعدد الأقاليم، ففي كل مدينة هناك لجنة وفي كل محافظة توجد عدة لجان؛ لذلك فالثورة السورية تشبه، من حيث مواصفاتها التاريخية، الثورة الفرنسية التي لم تكن لها قيادات، بل كانت ثورة شعب انفجر ثم جاء الآخرون ووظفوا هذه الثورة حتى وصل نابليون إلى الحكم. الثورة في سوريا هي هكذا، ثورة شعبية انفجرت كنتيجة لاكتناز الألم الناتج عن أكثر من 40 سنة من الظلم والفساد أدى إلى تفجير هذه البراكين في سوريا. - مقارنتك بين الثورتين لا تخلو من تناقض؛ الثورة الفرنسية أسقطت نظام لويس السادس عشر بدون تدخل أجنبي، وأنت تستبعد أن تنجح الثورة السورية في إسقاط نظام بشار الأسد دونما تدخل عسكري؟ الثورة مهما طالت ستسقط النظام، بتدخل أو بدونه، لأنه لا يمكن لحاكم أن يحكم شعبا لا يريده، النظام سيسقط بوسائل مختلفة. لكن، لاختصار الزمن وتوفير سقوط مزيد من الشهداء ومزيد من التدمير، فالأمر يتطلب وجود ائتلاف عسكري دولي، خارج الأممالمتحدة وليس داخلها، لضرب مواقع القوة عند هذا النظام، وبالتالي تمكين الشعب السوري من ممارسة حقه في تقرير مصيره. - لماذا ائتلاف خارج الأممالمتحدة؟ خارج الأم المتحدة، لأن طرح الموضوع في الأممالمتحدة سيواجه بالفيتو الصيني والروسي، وبالتالي فائتلاف دولي، كما حدث في كوسوفو وساحل العاج، هو الحل. مثل هذا التدخل من شأنه أن يوفر الخسائر والضحايا ويجنب الدمار. من جهة ثانية، إذا لم يجر هذا التدخل فستتطور الأمور، لأن بشار الأسد يريد أن يتطور الصراع ليتحول إلى صراع طائفي، لأن في ذهنه إقامة دولة في الساحل حيث توجد الأكثرية العلوية. والدفع بهذا الاتجاه سيجعل سوريا تصبح ملاذا لكل المتطرفين في العالم العربي والإسلامي للدفاع عن الشعب السوري.