- في البداية تساءلت هل يكفي البكاء؟ هل يكفي الرثاء ؟ هل يكفي الكلام عن عزيز غادرنا إلى الأبد؟ في اعتقادي أن الوفاء أسمى من الرثاء، والوفاء يملي علي أن أفتح كتاب ذكرياتي مع الراحل ولا أظهر منه إلا صفحة من صفحاته الكثيرة. - تعرفت على الفقيد في السنة الأولى من العقد الأخير ، عن طريق الشاعر والفنان التشكيلي الصديق محمد شهيد أطال الله عمره، كان ذلك في أمسية شعرية بالثانوية التقنية بتازة، قرأ فيها المرحوم قصيدة بنبرة حزينة وخجل كبير، قصيدة بعنوان: " من يعلن الصباح ببغداد". - في ذلك المساء امتلأت القاعة بالأساتذة، بالطلبة ومحبي الشعر والشعراء، في ذلك الزمن الجميل كانت تمتلئ القاعات عن آخرها لتعيش شعرا، ندوة أو مسرحا، كان يومها للشعر والشعراء والإبداع عموما قيمة كبيرة. فكم هو شاسع الفرق بين الأمس واليوم . قدمني الفنان محمد شهيد إلى الفقيد، عانقني بالأحضان، تبادلنا الكلام حول الشعر والشعراء، الكتابة، هموم ومشاكل المتقفين بالمدينة والوطن، عن الآلام والآمال ، عن الأوهام والأحلام. مند تلك اللحظة بدأت العلاقات كبرت وترسخت، كثرت لقاءاتنا وتجذرت أواصر الصداقة بيننا خلال الأيام والسنين، عبر اللقاءات الثقافية، الأمسيات الشعرية والجلسات اليومية في مقهى الجوكاندا، بيكاسو وفي بؤر أخرى داخل المدينة وخارجها. اكتشفت أن للفقيد حميد زريويل رحمه الله خصوصيات انفرد بها عن الكثيرين ، ميزته عنهم وستظل حية بعد الرحيل والى الأبد. كان صديقا حميما حنونا، كريما، طيبا سموحا، طموحا حالما، متفائلا، محبا للشعر والأدب والفن، مدمنا على قراءة الصحف والمجلات وما جد من الدواوين الشعرية والكتب الأدبية، كما أنه كان مواظبا على النشر في الملاحق الثقافية، خاصة في مواقع الانترنيت : دروب، الفوانيس، الحوار المتمدن تازة سيتي وغيرها، كان يحاول أن يهزم اليأس والإقصاء بالكتابة والنشر نعم الكتابة وسيلة تفريغ وأداة ترميم داخلي. كان رحمه الله طيبا إلى أقصى الحدود يسمو عن دنايا الدنيا فيرتقي أعلى درجات الإنسانية، متسامحا مع الأصدقاء متعاليا على أخطاء الآخرين، ابتسامة وعناق بالأحضان ينجلي الليل تدوب الخلافات فيعود زورق الأخوة إلى منبع المحبة. لكن الممارسات المشبوهة من طرف المرضى بالوهم الثقافي كانت تضايقه كثيرا، فينسحب إلى ذاته المنكسرة تاركا وراءه ( الجمل وما جمل) ضاربا بعرض الحائط كل القيم المزورة الادعاءات الزائفة والتصارع الوهمي حول الكتابة، كان انسحابه يطول إلى أسابيع أو شهور، ثم يعود ليعانق الجميع بالأحضان. فكم من رجل يعد بألف رجل/ وكم من رجال تمر بلا عداد. - الفقيد حميد زريويل ماذا أقول لك وعنك أيها الحميم؟ كم كنت صابرا مؤمنا أيها الغالي بقضاء الله وقدره، يوم زرناك في مدينة فاس وأنت طريح الفراش عند عائلتك، زرناك أنا والأخوين الشاعر بوجمعة العوفي والشاعر عياد ابلال كان ذلك قبل رحيلك بأربعة أيام، كم كنت صلبا وقويا أمام المرض الخبيث الذي نخر جسمك النحيل بسرعة مذهلة حتى غابت ملامح وجهك واختفى صوتك الهادئ حتى كدنا لا نعرفك من شدة الهزال، كم بكينا حينها، لكن كم كان إيمانك قويا حين ضحكت لما قلت مستملحة أضحكتنا جميعا ثم ألححت علينا أن نشرب الشاي وأضفت ماذا وقع؟ وستستمر الحياة، قلتها بطريقتك التهكمية التي ألفناها فيك من قبل، هل تهكمت من المرض معلنا انتصارك. عليه، أم من الدنيا وعبث الحياة ؟ في تلك اللحظة كان طبيعيا أن أتذكر الحكمة التي قلتها لي أكثر من مرة ونحن في جلساتنا الحميمية ( اللي عمر قلبو بالإيمان يموت شبعان) وها أنت الآن شبعان من الدنيا، متشبع بإيمانك. شربنا الشاي في الصالة المجاورة لك فبكينا حتى النخاع بعدما اخبرنا أخوك عبد اللطيف أنه لا أمل في شفائك، هكذا قال له الطبيب المختص في مستشفى الشيخ زايد بالرباط. ودعتنا بالأحضان مبتسما فودعناك بالدموع، الوداع الأخير لأننا كنا نعلم بأننا لن نراك بعد ذلك اليوم طلبت منا أن نعود إليك وأن نأتيك بما جد من الإبداع والفن، لكن الموت كان أسرع منا. لبست فاس ثوب الحداد وباتت حزينة تدرف دموع الفراق بعدما نكست العلم حدادا عليك. أما تازة فما زالت شاحبة بلون الحزن خرساء من شدة الصدمة وألم الفراق. وتدور الأيام مسرعة ينقضي العمر ويبقى الإحباط والانكسارات/ تبقى الأخلاق السامية والإبداعات الراقية، أما نحن فموتى مؤجلون إلى حين. أما أنت أيها الغالي فاسترح في قبرك ولا تبال بالآخرين استمتع براحتك واخلد إلى نومك الأبدي. أيها النورس القاطن الآن في عوالم نائية حيث اللاعودة، سلام عليك حاضرا وغائبا، فقد كنت كبيرا في حياتك ولابد أن تشمخ أكثر بعد الغياب. نعم إن للموت مرارة يصعب تحملها على بعض الأحياء إن كانت قدرا لا يرد وقاسما مشتركا بين سائر البشر، وماكان الموت إلا رحمة بعباده ولو كرهوا هذه النعمة التي قدرها ومواقتها في علم الخالق الذي بيده أعمار خلقه. رحم الله حميد زريويل وأسكنه فسيح جناته ورزق الصبر لعائلته ودويه. وإنا الله وإنا إليه راجعون