فيعترضُ أنيس منصور: لكن.. "قلوبُ النّساءِ مناجمُ ذهب، فحْم، غمّ، و..." فيُقاطعُهُ الشّيخُ مصطفى عبد الرّازق بقولِهِ: "المرأةُ هي المنبعُ الفيّاضُ بما في الحياةِ الإنسانيّةِ مِن حُبّ". ويتدخّلُ صميلز ليُحددَ الأدوار: بل "المرأةُ قلبُ الإنسانيّة، والرّجُلُ هو الرّأس". ومِن بعيدٍ يُسمَعُ صوتُ إبراهيم نوّار هاتفًا:
"المرأةُ حديقةٌ، لكنّها تتحوّلُ أحيانًا إلى صحراءَ لا تصلحُ إلاّ لزراعةِ الصّبّار". لماذا تتحوّلُ المرأةُ إلى صحراء؟ ومتى؟
فيقول جوزي فيرر: صحيح أنّ "المرأةُ مخلوقٌ مليءٌ بالحنانِ والرّقّة، لكن؛ عندما يشاء". وإن لم يَشأ هذا المخلوقُ أن يَرِقَّ ويَحِنّ، فماذا تكون النّتيجة؟ حرب؟ مَن يُرشدُها إلى الصّواب؟
يُسارعُ المثلُ البرازيليّ إلى القوْل: إرادةُ المرأة إن كانت حازمةً لا تحتاجُ إلى إرشاد". لماذا لا تحتاجُ إلى إرشاد؟
يجيبُ "أناتول فرانس: لأنّ "المرأة هي مُكوّنةُ المجتمع، فلها عليهِ تمام السُّلطة، لا يُعمَلُ فيهِ شيءٌ إلاّ بها ولأجلِها". ويؤكّذ لاوتسو قائلا: فعلاً، "إرادةُ زوجتي الحَسَنة تُقصّرُ عليّ الطّريق". ويُضيف إميل زولا مؤكّدًا: "المرأةُ تحملُ في ثنيّاتِ ثوبِها مصيرَ كلّ فرْدٍ مِن أفرادِ عائلتِها". آراءٌ عدّةٌ تتوازى وتتلاقى، ومعها تأخذني إلى مظلّةِ الحقوقِ المدنيّة.. حيثُ تاهَت إناث في ظلال أدغالِها، وتحدّثنَ عن الحرّيّة والمساواة بنهجٍ متعصّبٍ مُتشنّج مُتمرّد، فساقتْهن اللّغة العنجهيّة بعيدًا عن أنوثتهنّ، وأسأنَ إلى أخواتهنّ مِن حيث لا يدرين، وبالمقابل، كنّ أخرياتٌ يعملنَ بهدوءٍ مِن خلال اتّساعِ مداركهنّ وآفاقِ وعيهنّ، وكان لصدى صمتهنّ وإنجازاتهنّ تغييراتٌ جذريّةٌ، في مجرياتِ التّشريع والقانونِ والتّاريخ والحضارة وقلبِ موازين الإجحاف، وتحقيق مكاسب ثقافيّة وأسَريّة وشخصيّة واجتماعيّة، فتقلّدنَ مراكزَ إداريّة ومناصب ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة وقضائيّة.
أيّتُها الأنثى.. لِمَ تجعلينَ مِن قضيّةِ حرّيّتِكِ صراعًا متواصلاً في كلّ الاتّجاهات مع الرّجُل، لا يُرضيكِ فيها إلاّ انتصارُكِ دونَهُ، وكأنّكِ بذلك تعزلينَهُ عن عرْش استبدادِهِ؟
ألا ينبغي لكِ أن تتكاتفي معَهُ جنبًا إلى جنبٍ بروحٍ يسودُها الاحترامُ والتّعاونُ والمحبّة، دونَ المساسِ بمكانتِهِ، لتصمدا معًا في وجهِ مَن يُسيّر حياتكما نحوَ الهاوية، ولاستردادِ كرامتِكما وأمنِكما، وليتأتّى لشعوبِنا أن تنعمَ بالحرّيَةِ وبخبزٍ طازجٍ غيرَ عفِن؟
لِمَ لا تناصرينَ أختَكِ بالمنطق، وتدعمينَها في بلورةِ حقوقِها، دونَ انتقاصٍ مِن حضورِها الفعّال وقدراتِها المحدودة في فسيولوجيّتِها، أو الاستهانةِ بجبروتِها وصمودِها، وكلُّ إنجازٍ ينعكسُ إيجابيًّا على سائرِ بناتِ حواء؟
حالاتٌ استثنائيّة نتعايشها ونتكبّد شقاءَها، تبعثُ في النّفس شعورًا بالتّوجّس والرّهبة، ولا يتأتى لنا الخلاصُ منها إلاّ بالهروب أو بالتّصدّي لها، والنّزوحُ الإنسانيّ بكثافتِهِ، يَهوي إلى دركاتِ الجريمة والعنصريّة بوحشيّةٍ حضاريّةٍ عشوائيّة.
"ممنوع دخول القطط والكلاب والرّجل الأسود"! عبارةٌ عُلقت على أبواب المطاعم والمحال، عايشها السُّود بمنتهى التّحقير والازدراء بحسب القانون الأمريكيّ، فهل يُساوى السُّود بالحيوانات؟ هل يمكنُ قهر المستحيل؟ كيف؟ بالحرب؟ وهل تكفي المبادرة؟ ما الذي يُعزّزها؟ الإيمان بالقدرة على التّغيير؟ القوّة العنيفة؟ القوّة الهادئة؟ هل يمكن للإنسان أن يصنعَ العالم الذي يحيا به؟ هل القوانين هي الحلّ الجذريّ العادل بالمُطلق؟ ألا يتمّ التّحايل على القانون، والتّسلّق فوق الأعراف والقفز مِن على الشرائع؟ في ظلالِ الكلمات المكتوبة وهسهسة الحروف المكتومة، راودت روزا لويس باركس حكايةَ الحرّيّة بصمْتٍ تثويريّ تعبويّ، فسياسة القوّة الهادئة لا تحتاج لبوارج وأساطيل كي تتجاوز الإشكالات، بل لبوارق آمالٍ متفائلةٍ تلوحُ في أفق النفوس الواثقة، كأحد أشكال المجابهة والمقاومة، والإصرار على البقاء ووقف استنزاف الكرامة المهدورة.
عام 1955 انفجرَغضبُها ضدّ الأعراف اللاّحضاريّة المُجحفة، فرفضت أن تقفَ لسيّدِها الأبيض لتُجلسَهُ في الحافلة، وتمرّدت على قانونٍ يمنعُ منعًا باتًّا جلوسَ الرّجل الأسوَد وسيّده الأبيض واقف، ممّا عرّضها للمحاكمة، وتغريمها ب 15$ نظيرَ تعدّيها على حقوق الغير!
ويثورُ غليان السّود في سماءِ وأرض الولاياتِ الأمريكيّة، وبعد مدّة 381 يومًا متواصلاً مِن مقاطعةٍ شاملةٍ للمواصلات، خرجت المحكمة بإلغاءِ القوانين العنصريّة ضدّ السّود! روزا تجاوزت الإجراءاتِ الرّسميّةِ بإصرارِها ضدّ شرائع المعاناةِ والاستعبادِ والانتقاصِ وتردّي الأوضاع، ونسجتْ حكايةَ الحرّيّة لتتمرّدَ على الظّروفِ القائمة، وتتدخّلَ في تغييرِها وتحديدِ مصيرِها. إيمانُها بإرادتِها وبدوْرِها الرّائد في بعْثِ الحرّيّة وترسيخ الثّورة ضدّ الظّلم، حفّزَ ثقةَ السّودِ في مسيرةِ تحديدِ المصير، وألقى بظلالِ خنوعِهِ كوابيسَ خانقة على البِيض! عاشتْ (4-2-1913 – 24-10-2005)، حازتْ على وسام الحرّيّة وأهدتْهُ لبني جنسِها، والوسام الرّئاسيّ للحرّيّة عام 1996، والوسام الذهبيّ للكونجرس عام 1999، وهو أعلى تكريم مدنيّ في البلاد، وهي المرأة الوحيدة التي يرقدُ جثمانُها بأحدِ مباني الكونغرس، مِن بين 30 جثمان لوجوه بارزة ورؤساء. أيّتها الأنثى.. اِعتدّي بكِ بصماتٌ نسائيّةٌ كثيرة ظلّتْ محفورةً في ذاكرةِ تاريخِ الحرّيّةِ والكفاح.. نساءٌ أرَدْنَ، ووقفنَ أمامَ المحاولاتِ البائسةِ وجعلنَها مثابرة، وحرّكنَ القلوبَ اليائسةِ لتؤمنَ بهويّتِها الإنسانيّة، وحرّضنَ النّفوسَ والمنطقَ والوعيَ الغافي على إيثارِ الصّمت!