الشعر تيار ليس بالجارف ، لكنه يجذب إلى الغواية واللذة والمتعة والاشتهاء .. الصادق منه يبقى على وجه الأرض سطورا لامعة في النهار، ومضيئة بالليل ..يتعلق بين السماء والأرض حين تقام له المهرجانات ويتبرأ من المنافقين .. في الليلة البيضاء يتحول إلى بدر بالتمام ، ينير سماء صافية مكثفة بالمجرات والنجوم ، ولا يبالي بالظلام .. هو الذي يرافق الموسيقى يدا في يد إلى حيث النغم ، وبلغة الخيال ولسان القلب يرغم الذات على الانسلاخ من براثن الظروف كي تغتسل بمائه السحري وترقص حافية رقصة نارية على جمر ملتهب دون أن تكوى الأقدام .. إنها الشطحة المشتعلة في حضرة سيد الكلام .. في محرابه كل القصائد فرائض وما كان من السنن فهو المؤكد ، كل الحواس حراس واحدة توقد الأخرى إلى أن تشتعل الروح .. هو مظلة التحليق في سماء الكون ، وشراع الإبحار في المحيطات ، بوصلة وجوده تحدد جهات أنواعه من عامي إلى فصيح ، ومن حر إلى عمودي ، ومن موزون إلى منثور، هي ذي الأصناف ويبقى هو البديع الرفيع .. رسم الشعراء خارطة حبه وعرة التضاريس ، لكن مفاتيحها سهلة القراءة ، شمالها عنوان وجنوبها توقيع ، يلتقي شرقها بغربها في دورة واحدة دون دوار حيث تتماسك الشرايين وتتقاذف كريات حرارية تمج بالعطر المعتق وهي براقة كحسن لآلئ الأعماق المغسولة بغيمة النقاء وتعاويذ البهاء .. في قراءته بلسم الروح ، وفي سماعه خيط معراج الذات إلى الصفاء على صهوة الأخذ المطواع غير الحرون .. هو الشعر فقط ، هو الشعر وكفى ، ما بعده شعر وما قبله شعر.. هو الحس بأطيافه ، والشعور بألوانه ، والانفعال بدرجاته ..هو المدح والذم والهجاء والرثاء ، ولكل قصيدة كلام .. هو الأغنية الجميلة ، وزقزقة الحسون ، وتغريد البلبل ، وشدو الشحرور ، هو الصوت العذب واللحن الأنيق ..الشعر لا لون له ، لأنه هو الألوان كلها .. هو حركة الفراشات فوق أزهار الربيع ، و طنين النحل المحمل بالرحيق .. هو العالم المترع بالجمال ، وفيه أراجيح المتعة تذهب وتجيء مشحونة بالروح كي تكتمل الحياة .. إنها حركة النبض حاملة لياقة السؤال والجواب ، والصمت والحديث ، والوحدة والنشوة ، والصدق والمتعة ، والحق واللذة .. هو الحياة ، والحياة متشابكة ، مرة تعزف على قانون الفرح ، ومرة تنفخ ناي الألم .. في حدائقه الشاعر بستاني بلا أدوات يرعى الفل والنرجس والياسمين والنسرين بالنظرات كالمفردات .. وبعبقه يطرز الندى فساتين الكلمات .. هو الذي يسائل الكون ، والكون يسائل العبارات .. كي يتطهر ينادي الأنهار ، فتأتيه البحار والمحيطات لكونه بطل الحكايا وسر الخبايا وبلور المرايا .. هو المنفى ، وهو نشيد رسمي يعزف بخشوع للوطن .. ليس الشعر بالصراخ والعويل ، بل هو البطولة والصمود والشموخ والحياة والخلود ... أيها الشعر الكريم ، سامح العالم في يومك ، هناك من طينة المنافقين والمجرمين من يخذلك ، وفي مباخرك يضع العود المدنس .. ونحن نضع أريج الإنسانية ومسك الروح ...