أخالني في هذا الوطن مهووسا بكل شظايا الجدبة ، مجدوبا يترامى بين أدرب و متاهات و أنفاق و أودية المنفى الوطني ، أجدني أفترش التراب و أتوسد الحجر و استلذ بكل وعكة تصيبني ما دمت أحلم بوطني ، تتبعثر الكلمات و تتيه الحقيقة بداخلي ، أطل من أعلى الشرفات لأتفحص وجهي في المرآة ، تستبد بي المرآة و تحملني في رحلة ليست ككل الرحلات ، فقد كان لي مسار تعيس مع الرحلات لكنها كلها لم تكن كهاتي الرحلة ، التي أجدني فيها محمولا ليس على أكتاف الأصدقاء و لا على أكتاف الغير أصدقاء ، بل أجدني أتيه في شوارع مدينتي تحملني الذكريات و الصور الجميلة و تأخذني لتأسرني في زنازين عشقها و تيهها و توهجها ، مهووسا بالكلمات ، متيما بتلك الشبقية التي أسرتني و أخدت كل ما كان بداخلي لتتركني أتسول الصدقات بباب رحمتها الذي لن يأتي . أتيه في فضاء دامس تطل من ثناياه بعض النجوم الحزينة الملتصقة بذاتي المهزومة من حماقات الكون و جبن الضمير ، أستفيق لأجدني أسير بلا اتجاه ، منكسر انكسار قامة هذا الوطن الكبير ، تكبر المدينة أصغر أنا لأنني أسست مملكة الصمت الرهيبة ، لأزف بشرى الجريمة و لأتأمل هولها من خلال الحاضر و المستقبل . أقف أتنفس الصعداء ، أحس بشهقات تتدحرج من عمق أفكاري لتوصلني إلى بر الأمان ، أتيه و أشرد في فضاء لامتناهي أمد يدي للعشق ، يهرب العشق من وجهي و من يدي يتهمني بالجبن و التيه ، أتأمل التاريخ الغابر المليء بالبطولات يمر عبر عزة عنترة و بأسه السرمدي في ساحات الوغى و دفاعه عن حبه الذي حكمت عليه قساوة الواقع و أصدرت حكمها بتغييبه لكنه قال لا ، و عن المتنبي و صولاته و جولاته الوهمية في ساحات العزة الأدبية لكن مفخرته أنه قال لا ، أما أنا ذاك الإنسان الحقير المقيد بالتيه ، المغلول بقيود الهزيمة الإرادية ، نعم يدي مغلولة و لكن و يا حسرتاه بدون قيد ، مسلوبة كرامتي بدون ضغط ، أستفيق الصباح ، أتيه في فضاءات المدينة من المقهى إلى التيه و من التيه إلى المقهى و الضياع ، أستلذ بجرح الإنسان بتفرجي عليه و هتافي لمصرعه ، لست نيرون الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي بل أنا نيرون المحكوم بالعذاب الذاتي المستمد من الصمت و الهزيمة الطوعية ، أقف لأحدث التاريخ ، يركلني التاريخ و يحكم على أمثالي بالإعدام الفكري ، أدافع عن نفسي ، أجد نفسي هي ادعائي و هي الشهود و هي الجريمة المرتكبة بقصد أو بغير قصد ، يتلقفني التيه باعتباره فضاء رجولتي التي لم أعد أمتلكها ، ينظر إلي طفل صغير خلته يضحك لي و لكن و يا ويحثاه فقد كانت شفتاه شظايا قنبلة ملتهبة تحرق دواخلي ، و تنصب ضدي ادعاءا أبديا بأن ينالني رحمة من رب بعيد ، يقف الدم في وجهي ، لكن حين أتأمله أجده أسودا قانيا من هول الجريمة و هول الصمت ، ترى ما ارتكبت ، ما جنيت في حياتي حتى أعيش كل هذا التيه و هذا الصراع ، أتوقف لأسترد أنفاسي ، فأجد أنفاسي قد تم بيعها و تسويقها إلى عالم لا أدريه و لكن لم أصرخ و تلك هي المأساة . -------------