أشياء كثيرة تغيرت في حياة لطيفة بن زياتن، إلا حزنها الشديد على فقدان ابنها عماد، فما يزال كما هو رغم مرور تسع سنوات على مقتله في حادث إرهابي بتولوز الفرنسية. ألم فقد تتجرع مرارته حتى اليوم. إعلان فالذكريات القاسية المرتبطة بهذا الحادث المأساوي بقيت حاضرة بتفاصيلها الدقيقة في وجدان لطيفة بن زياتن: لحظة علمها بخبر مقتل ابنها، ثم زيارتها للمكان الذي قُتل فيه وللحي الذي كان يقطن فيه القاتل "محمد مراح"، وحوارها مع شبان ذلك الحي الذين وصفوا القاتل ب"شهيد الإسلام" والذي جعلها تحس بأن ابنها قُتل مرتين، وغيرها من الأحداث التي لا تستطيع استحضارها دون أن يعتصر قلبها حزنا وتغالبها الدموع. خلف قصة نجاح هذه الناشطة في مجال العمل الاجتماعي والإنساني والتي أضحت رمزا عالميا للنضال من أجل الحوار بين الأديان ونبذ التطرف، قصة أخرى، لكنها حزينة، بدأت يوم 11 مارس 2012 عندما بلغ إلى علمها مقتل ابنها عماد الذي كان يعمل مظليا في القوات المسلحة الفرنسية، على يد شاب فرنسي من أصل جزائري أطلق عليه رصاصة في الرأس لينهي حياته إلى جانب ستة أشخاص آخرين، قبل أن يتم قتله من طرف الشرطة. إعلان تقول السيدة لطيفة بن زياتن، ابنة مدينة المضيق التي هاجرت إلى فرنسا قبل أزيد من أربعين سنة، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، "وفاة ابني أفقدتني طعم الحياة. عماد كان شابا طموحا ولديه أحلام عديدة يسعى إلى تحقيقها. لم يكن ابني فقط، فقد كانت تجمعنا علاقة وطيدة وتواصل كبيران". ولذلك، أصرت بعد أربعين يوما على جنازته على التوجه إلى المكان الذي قُتل فيه. تستحضر ذلك اليوم قائلة "رغم رفض عائلتي، صممت على الذهاب. كان لدي إحساس قوي بأن ابني ترك لي رسالة ما قبل أن يفارق الحياة. توجهت إلى مكان الحادث وفوجئت ببقع دمه التي كانت لاتزال هناك. كانت لحظة عصيبة لا يمكن وصفها". إعلان وفي هذه اللحظة بالذات، تضيف السيدة بن زياتن، "قررت أن أبحث عن المنزل الذي كان يقطن فيه القاتل علّني أعرف السبب الذي دفعه لحرماني من فلذة كبدي، لأصدم هناك بما يتداوله أبناء ذلك الحي الشعبي. فقد اعتبروا ما قام به محمد مراح انتصارا للإسلام ووصفوه بالشهيد. أحسست حينها بأن ابني قُتل للمرة الثانية". تتذكر السيدة بن زياتن كيف أنها استجمعت قواها حينها وصرخت في وجه هؤلاء الشبان بكل قوة " أنا أم عماد الذي قتله مراح. هذا الذي تعتبرونه أنتم شهيدا. هل هذا ما يدعونا إليه الإسلام؟"، لترتسم على الفور ملامح الدهشة والأسف على محياهم، حيث اعتذروا عن ما صدر عنهم من كلام جارح، وبدؤوا في إلقاء اللوم على واقعهم الصعب داخل أحياء مغلقة عليهم وكيف أنهم معزولون داخل المجتمع الفرنسي وحتى أن آباءهم لم يعودوا يطيقون وجودهم. إعلان "كان هؤلاء الشباب في حالة يأس شديد"، تضيف السيدة بن زياتن، "غير أني أصريت رغم حالتي النفسية الصعبة على مواساتهم ومحاورتهم وتصحيح العديد من المغالطات التي كانت شائعة بينهم، ودعوتهم إلى التخلص من مشاعر الكراهية والحقد تجاه الآخر مهما كان دينه، وفي المقابل، الاجتهاد والبحث عن الفرص التي تتيح لهم تأمين العيش الكريم". وتابعت قائلة "أخبرت هؤلاء الشباب أيضا أنني ووفاء لذكرى ابني، قررت تأسيس جمعية تحمل اسمه +جمعية عماد من أجل الشباب والسلام+ لم أكن وقتها قد حددت بالضبط طبيعة نشاطها، لكن وبعد حواري مع هؤلاء الشباب أدركت أنهم وغيرهم من الشباب بحاجة لي. فرغم أنهم كانوا سبب جرحي، إلا أنني عزمت على مد يدي لمساعدتهم. ومن أجلهم خرجت إلى المجتمع للعمل وضحيت بحياتي ومنزلي لأكون إلى جانبهم حتى لا تنجب مثل هذه الأحياء الهشة محمد مراح آخر". ومنذ ذلك الحين، بدأت السيدة بن زياتن زياراتها للمؤسسات التعليمية والسجنية والأحياء التي تتفشى فيها مظاهر الهشاشة والجريمة وحتى داخل الأسر بمختلف أنحاء فرنسا، وفي عدة دول عبر العالم، سعيا للنهوض بقيم السلم والتعايش وحماية الناشئة من الوقوع فريسة لدعاة التطرف، خاصة عبر تنشيط ندوات ولقاءات مع الشباب من مختلف الديانات الذين تتاح لهم الفرصة لتصحيح مجموعة من الأفكار المغلوطة حول الآخر لمجرد أنه مختلف معه في دينه وثقافته أو ربما لون بشرته. فما تسعى إليه هو "إقناع هؤلاء الشباب سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا أو حتى علمانيين بضرورة إيجاد أرضية للتفاهم من أجل العيش معا". "لغة الحوار" هي سلاح لطيفة بن زياتن التي قالت إنها تستقبل حوالي 3 إلى 4 طلبات أسبوعيا من مختلف المؤسسات للتعاون مع جمعية "عماد من أجل الشباب والسلام" وعقد لقاءات مفتوحة يحضرها مئات الشباب "الذين يجمعني بهم حوار بسيط يخرج من القلب ويصل إلى أفئدتهم وعقولهم بطريقة سلسة لأنهم يكونون في أمس الحاجة لمن يتحدث معهم، ويعيد لهم الأمل في المستقبل". هذا الالتزام الراسخ بوأ السيدة بن زياتن مكانة كبيرة على الساحة الدولية وأهلها للظفر بالعديد من الجوائز العالمية، آخرها كانت "جائزة زايد للأخوة الإنسانية" لعام 2021 مناصفة مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، التي تنضاف إلى تكريمات عديدة وجوائز أبرزها جائزة مؤسسة شيراك سنة 2015، ووسام الشجاعة من وزارة الخارجية الأمريكية سنة 2016 . وعما يعنيه لها كل هذا التقدير والتتويج العالميين، تؤكد السيدة بن زياتن أن كل جائزة تفوز بها تهديها أولا إلى روح ابنها، وتسخرها لفائدة الشباب، كما تحفزها على أن تكون شجاعة أكثر وتقوم بكل ما في وسعها من أجل الناشئة "لأنهم مستقبل هذا العالم، ولأنه لا يمكننا أن نتغاضى عما يقع في العالم. فنحن بحاجة للعيش في سلام وأمان وللأخوة الإنسانية". كل النجاح الذي حظيت به السيدة بن زياتن نظير جهودها التي مكنت من إفشال مخططات العديد من التنظيمات الارهابية الساعية لاستقطاب الشباب جعلها تتلقى العديد من التهديدات، فقد أصبحت هذه المرأة، التي لا سلاح لها سوى عزيمتها القوية لحماية الشباب، تقف سدا منيعا أمام مخططاتها وفكرها الظلامي الذي أصبح ينفذ، للأسف، إلى عقول العديد من الشباب. وعن التهديدات التي تلقتها والتي وصلت حد التهديد بالقتل، تؤكد لطيفة بن زياتن أنها تتحلى بما يكفي من الشجاعة والإصرار للمضي قدما في مسيرتها بنفس حماس البداية "صحيح أنني شعرت بالخوف على أفراد أسرتي. أما أنا فلم أحس بالخوف بتاتا. لقد اخترت ميدان السلام ومن الواجب أن أستمر فيه". وعلى بعد أيام من حلول الذكرى السنوية التاسعة لمقتل ابنها عماد، تستعد السيدة بن زياتن لتنظيم مجموعة من الأنشطة، وإطلاق عدة مشاريع على غرار ما تقوم به كل سنة، في محاولة لجعل هذا اليوم الذي يرتبط في ذاكرتها بحادث مؤلم، يوم فرحة للشباب الآخرين. فبالنسبة لها، ليس هناك سبيل إلى ملء الفراغ الذي تركه عماد سوى مساعدة شاب أو شابة على تحقيق أحلامه وحمايته من الوقوع في شرك التنظيمات الإرهابية "فأنا أعيش من أجل ابني، ومن أجل الشباب جميعا الذين يعتبرونني أما ثانية لهم، ولذلك لن أتأخر عن أداء واجبي تجاههم مهما كلفني ذلك من جهد".