افترض أنه إذا أتيحت الفرصة أمام مواطن مغربي متوسط أو محدود الدخل للاختيار بين توجهين للإنفاق العمومي أحدهما قائم على الاستمرار في ضخ عشرات الملايير من الدراهم سنويا لدعم أسعار مواد يفترض أنها أساسية (وعلى رأسها المحروقات من بنزين وكازوال وغاز البوتان بالإضافة إلى مادة السكر ...) مما يكلف خزينة الدولة في السنوات الأخيرة ما يقارب 50 مليار درهم وهي تكلفة صندوق المقاصة سنويا مع علمه المسبق بأن المستفيدين من الصندوق هم في غالبيتهم المطلقة من الفئات الميسورة والغنية والشركات والمقاولات ( التي تستفيد من المواد المدعومة بنسب عالية تفوق بكثير استفادة الفقراء وذوي الدخل المحدود المفترض أن يتوجه إليهم الدعم ). أن يختار بين هذا التوجه من جهة والتوجه الآخر القائم على تحرير أسعار هذه المواد وتغيير سياسة الاستهداف (عن طريق توجيه الدعم المباشر لمن يستحقه ) وهو الأمر الذي سيمكن من تعبئة موارد مالية ضخمة (أكثر من 30 مليار درهم سنويا) لتعزيز الإنفاق العمومي في مجالي التعليم والصحة ومواجهة الخصاص والعجز الاجتماعي المهول ( بناء المستشفى والمدرسة وتوفير الطبيب والأستاذ ) فانه بدون شك سيختار هذا المواطن الخيار الثاني. سيختار أن يوفر للدولة هامشا ماليا للتمويل وميزانية (أخرى ) لمضاعفة المجهود الاستثماري العمومي في مجال الخصاص الاجتماعي، سيختار الأثر الاقتصادي والاجتماعي المباشر لوجود أستاذ في المدرسة العمومية وطبيب في المستشفى العمومي على أن يجد بنزين بثمن رخيص في محطات التوزيع، سيختار ضمان توفير خدمة عمومية تليق بكرامته وكرامة أسرته عندما يتوجه إلى أقرب مستشفى منه عندما يداهمه المرض والألم خصوصا وهو يعلم أن الوضع الحالي وضع سيئ يعرف عجزاً تراكم خلال عقود وسنوات وأنه عندما يفكر في الذهاب إلى الطبيب يكون أمام خيارين أحلامها مر : مستشفى عمومي تذهب إليه وأنت كاره لان وجعك لن يلقى في الغالب إلا الإهمال واللامبالاة ومستشفى القطاع الخاص يطالبك موظفوه بضمانة مالية لأداء الفاتورة أنت لازالت على أعتاب الدخول. سيختار تعزيز أنظمة التأمين الصحي والتماسك الاجتماعي والتضامن عوض أن يظل ثمن السكر مثلا متوفر في السوق بأقل من ثمن التكلفة وهو يعلم أن استفادته منه ضعيفة واستهلاكه منه قليل مقارنة مع استهلاك المشروعات الربحية (مطاعم ، فنادق، مقاهي، ...) والشركات المصنعة للمواد الغذائية والمشروبات الغازية، هذا فضلا عن أن تحرير وفتح سوق السكر أمام المنافسة قد يجعل من الدولة والمستهلك كلاهما رابحان من هذه العملية ...وهو الاحتمال الأقرب إلى الواقع، سيختار إنهاء ريع المقاصة ليفسح المجال أمام إجراءات تقترب أكثر من العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص، سيختار ببساطة الفصل بين نظام للإنتاج والذي يجب أن يقوم على التنافسية وحرية الأسعار والمبادرة وبين نظام للتضامن والحماية الاجتماعية والتي من واجب الدولة أن تؤمنها لموطنيها. سيختار إنهاء الخلط بين نظامي الإنتاج والتضامن وذلك لإنهاء نظام الريع واستفادة أقلية متمكنة من الإمكانات المادية العمومية ( ريع المقاصة، ريع المأذونيات والرخص، ريع الدعم العمومي...). يتفق الجميع أن النموذج التنموي المغربي يحتاج أكثر من أي وقت مضى للمراجعة لأنه يعيش مأزقاً بسبب عدة أعطاب وعلى رأسها صعوبات المالية العمومية ومخاطر استفحال الاستدانة وتكريس اختلالات التوازنات الخارجية وغياب الحكامة عن التدبير العمومي وضعف تنافسية الاقتصاد الوطني وغيرها من المؤشرات التي توصف بالخطيرة . فكيف يمكن إذن مراجعة النموذج التنموي المغربي دون أن نسمح بمباشرة الإصلاحات المهيكلة والعميقة للدولة والاقتصاد ونظام الإنتاج وتوزيع الثروة ..؟ *مستشار و نائب برلماني عن حزب المصباح