من بلاد الشام الكبير، المأسوف على وضعه الحالي المحزن و المدمي للقلوب، غنى مارسيل خليفة عن المناضلين، و أهاهم قطعة "مناضلون بلا عنوان، مناضلون في أي مكان" و هي ربما القصيدة الأكثر تداولا فيما يعرف بالأغاني الملتزمة التي تستهوي عقول الطلبة، خصوصا أثناء قيامهم بوقفات، أو اعتصامات داخل الجامعات ، احتجاجا على ما يرونه لا يتناسب معهم كطلاب، و المفهوم من القصيدة الجميلة و المعبرة، أنها تتغنى بالمناضلين الذين لم يتم حصرهم في عنوان محدد، و لا مكان بعينه، حيث أن النضال و بمفهومه الواسع لا حدود له، و لا جنسية، و لا دين، لكن لديهم مناهج و مبادئ تجمعهم و يلتزمون بها، و لا يتخلون عنها مهما كانت الإغراءات، حتى تحقيق هدف نضالهم، الذي غالبا ما يكون من أجل حق الشعوب، و كرامتهم، و حريتهم...و بما أن الشعوب المكلومة في كل مكان، كان المناضلون أيضا في كل مكان، و بلا عنوان. عندنا في المغرب نوع أخر من المناضلين، و هم مناضلون بلا وجه " كْمَّارَة " و هم فئة كبيرة من أفراد هذا المجتمع، الذين لا نعرف لهم وجها يمكن أن ننسبه إليهم، بحيث نسمعهم و كلما سنحت لهم الفرصة ، يتحدثون عن النضال السياسي، و النضال الحزبي، هذا الأخير الذي أتوقف عنده ما مرة في ذهول، أسائل نفسي ، هل يستحمرنا هؤلاء إلى هذا الحد الذي صرنا معه نرى شخصا واحدا يناضل مرة محلقا على ظهر حمامة، و مرة ممتطيا صهوة حصان، و أخرى على متن جرار...؟، دون مراعاة نضج هذا الشعب، الذي أبان ومن خلال محطات عديدة، أنه لم يعد كما الأمس، حين كان يسمع و لا يفهم، أو بالأحرى لا يُظْهر فهمه، تجنبا لما يمكن أن يجلبه عليه من نِقَم، سيرا على مقولة الأجداد" سبق الميم ترتاح"، و في نظري، و ربما في نظر العديد من المتتبعين لما داخل الهيئات السياسية في بلادنا، أن النضال الحزبي هذا، مصطلح قديم، صار في عداد الموتى، منذ أن صارت الأحزاب تُفقَّص بالجملة، كما تُفَقِّص الدجاجة بيضها، و صارت التزكيات لا تراعي لا قدماء الحزب، و لا ولائهم له، و لا تشبعهم بمبادئه...بل صار الدرهم المفتاح السحري لها، و أصبح بذلك - الحزب- و كأنه مقاولة تجارية، يبيع و يشتري، و يخرج من كل عرس انتخابي بمكاسب مادية جد هامة، لا يهمه بعدها إن بقي من فازوا معه في صفه، أو غيروا ولائهم لمن هو أقوى نفوذا، و لهذا صار العمل السياسي عندنا مهزلة ما بعدها مهزلة، و هذا ما تؤكده الأنباء التي تردنا يوما بعد يوم، عن انتقالات من هذا الحزب إلى آخر، و استقطاب حزب لشخصية نافذة، و منحها تزكية، دون أن تكون لها به أية علاقة مسبقة، و هذا هو حال مناضلي أحزابنا السياسية، الذين أتحدى أن تجد فيهم من له دراية بتاريخ الحزب الذي ينتمي إليه، و لا نضالاته التاريخية، و لا رجالاته الذي رحلوا وتركوا تاريخا لا يُذكر إلا نادرا، بل أكثر من هذا، فإننا لم نعد نميز بين الليبرالي، و الشيوعي، و الإسلامي، و الاشتراكي، و التقدمي...، فاختلط العمال بالأحرار، و الفضيلة باليسار، و المعاصرة بالاشتراكية...فيما أطلق عليه بتحالف الثمانية، و لست أدري إن كانوا كبارا أم صغارا – في الحجم طبعا- لكن الذي أنا متأكد منه كما غيري، أن أغلبهم رفعت في وجهه بطاقة حمراء، كتب عليها بجميع اللغات، حتي الأمازيغية منها، عبارة " إرحل " و في جميع شوارع المملكة، و طيلة الثمانية أشهر الماضية، مما يستوجب التذكير بقول الرسول الكريم (ص) " إن لم تستحيي، فافعل ما شئت ". إن المناضلين الحقيقيين الذين ينبغي الوقوف إجلالا و إكبارا لهم ، هم أولائك الذين يعيشون دوما في حزن الكادحين، من الأسر الضعيفة، و المعوزين، الذين يناضلون من أجل البقاء على قيد الحياة، هم و أبناؤهم، بأبسط و أقل وسائل العيش المتوفرة و المتاحة، و أولائك الآباء الذين يبيعون عافيتهم بأزهد الأثمان، من أجل لقمة عيش عيالهم، يحلمون بالخبز و الزيت، و مقاعد لأبنائهم بإحدى المؤسسات التعليمية الحكومية، المضرب أساتذتها دوما، و طبيب يتأثر بآهاتهم و يتأسف. هم أولائك المحرومون الذين يعشقون المطر و الأزهار، و يرون فيهما منبع الحياة، و أمل البقاء، قبل أن يتغلب عليهم الضجر، و ينزلون إلى الشوارع، فَتُحَوَّل ضلوعهم خنادق، و كلماتهم بنادق، تفجر في وجه من يغتصب حقهم في الحياة الكريمة، فهؤلاء فعلا بلا عنوان، و في كل مكان، و ليسوا سماسرة التزكيات، المناضلون بلا "كْمَّارَة ".