ما وقع لإسلاميي المغرب هو نفسه ما وقع للإسلاميين في مصر وتونس، فهناك نقط تشابه مهمة. رياح الربيع العربي عصفت، فانسحبت فئة حاكمة مقتها الشعب، وحلت محلها وجوه إسلامية مسموح لها بالحلول، ولما هدأت العاصفة، بل وقبل أن تهدأ، انتصبت القوى العلمانية المهزومة سابقا، لقيادة المعارضة وكبح الجماح، ووضع العصى في العجلة. ولا تهم بعد مصالحة الشعب. ما يهم هو منع الاسلاميين من نيل شرف أي تغيير أو إصلاح يأتي على أيديهم. الانتقام لا غير. والمقصود بإسلاميي المغرب هنا ليس كلهم، بل بالضبط اسلاميو حزب "العدالة والتنمية". هؤلاء اتخذوا ومن زمان قرار الاندماج في الحياة السياسية، وخوض الصراع السياسي والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية المقدم على سبيل المنحة. هؤلاء رفعتهم رياح الربيع العربي إلى سدة الحكم كما رفعت غيرهم، ويعانون اليوم من نفس ما يعاني منه الآخرون، المرفوعون إلى سدة حكم عقب الرياح التي فاجأت الجميع حكاما ومحكومين، ولم تنتبه أجهزة الاستخبارات إلا والعاصفة على أشدها. واليوم وبعد الاطمئنان إلى أن الربيع فات ومطلب التغيير مات، تم تدبير انقلاب هادئ وصامت، شاركت فيه الأحزاب المعروفة بعلمانيتها، وحقدها الشديد على الإسلاميين وما يمت إليهم بصلة، كما شاركت فيه الأحزاب المحسوبة على المخزن. وهو الانقلاب الذي شلل الحكومة وجمد البرلمان وأطلق منصات خطابات التشنيع برئيس الحكومة وحزبه ومن يناصره أو يتأسف عليه.لقد قضت الدوائر المقررة وطرها من حزب "العدالة والتنمية"، وقرروا أنه يتوجب إرجاعه إلى حجمه الطبيعي. والحقيقة هي أن هذا الحزب يجني ثمار اجتهاداته السياسية الخاطئة والمتكررة. وهذا لا يعني جلسة محاكمة له و لا هو تشفي والتشفي لا هو من الأخلاق ولا هو من المروءة، ولكن ما دام أن تلك الاجتهادات كان لها من يكرر أنها خاطئة، فقد وجب التذكير بها. صحيح أن قادة العدالة والتنمية معروفون بالنزاهة والاستقامة ونظافة اليد، وهم من أبعد الناس عن الارتزاق بالسياسة والتلاعب بالشأن العام، لكن هذا لا يمنع من القول إن الحزب أضاع فرصة ذهبية لفائدة التاريخ والناس وعموم البلد، كي يوضع المغرب على السكة الصحيحة، ووضع نفسه في المأزق الذي خططه لهم أركان المخزن. فعند هبوب رياح الربيع العربي، كان منتظرا أن عموم الشعب سوف تتوجه إلى أطروحات جديدة غير تلك التي عرفوها وكرهوها ومقتوها، وكان منتظرا أن يفسح المجال للإسلاميين، لتجريب حظهم مع واقع الأزمة الخانقة، كما أن الواقع الدولي كان لا يمانع في وجود إسلاميين حاكمين، ولم يوصي باستئصالهم بل أصبح يشجع على إشراكهم في الحياة السياسية. فكل الأمور كانت تصب في اتجاه استدعاءهم للحكم لإنقاذ الوضع مما يخيف. كما أنه وبالمقابل كان معروفا أن الأزمة مزمنة وعميقة ولا حل لها في ظرف عام أو عامين أو حتى عشر سنوات، وأنه لمواجهتها لا بد من أرضية دستورية صلبة وواضحة، تعطي للحكومة ورئيسها اختصاصات قوية، من حيث إصدار القرارات الكبرى والجريئة وتنفيذها، وتمكينه من مباشرة الإصلاحات الحقيقية وفرض احترام الجميع لها. وأنه وكفرع عن ذلك لا بد من أرضية قانونية تفرز أغلبية منسجمة أو مفروض عليها الانسجام وراء رئيس حكومة قوي محمي من الابتزاز. بدل كل ذلك فضل هذا الحزب الإسلامي، أو بالأحرى زعيمه عبد الإله بنكيران، النفث في عضد حركة 20 فبراير وتسفيه جميع تلك القوى الملتفة داخل إطارها، والاصطفاف وراء الأطروحات المخزنية والمواقف المحافظة المتخاذلة، والمشي وراء المبادرات الممنوحة، كما هي على غموضها وهزالة منتوجها، والرضا بأنصاف الحلول، بل بشبه الحلول، والاستسلام التام لكل ما يأتي من جانب القصر. وهذا لا يعني أنه كان مفروضا عليه مصارعة القصر ومواجهة الملك، بل أن يميز بين الملك وأركان مخزن الملك، ففي النظام السياسي المغربي، الملك وإن كان رئيسا للمخزن، فهو لا يتحمل مسؤولية أنشطته و لا يتورط معه في أفعاله. ففي أمثلة تاريخية ليست بالبعيدة كان العاهل المغربي حينما يخير بين الالتفاف إما إلى جانب شعبه أو إلى أركان مخزنه، كان يختار الشعب ويضحي بالمخزن. بمعنى أنه ما كان على الحزب الاسلامي و زعيمه أن يفعله، هو الوعي بالفرق بين المخزن والملك، واستثمار الفرصة الناذرة التي أتاحتها هزة الربيع العربي، لفرض شروطه على حساب المخزن الذي عانت أركانه كثيرا لما كانت كل أصابع الغاضبين تشير إليه تلميحا أو بالاسم واللقب. ومن الشروط التي كان ممكنا المطالبة بتحقيقها إيجاد أرضية دستورية وقانونية تسمح بمباشرة وتنفيذ وفرض الإصلاحات الكبرى التي تغير موازين القوى لصالح الأغلبية المسحوقة. لكن مقابل ذلك سلك الزعيم ومن في فلكه، مسلك التزكية لكل ما يأتي ملفوفا في أثواب القصر، أدان حركة 20 فبراير، وزكى دستورا غامضا، وتحمل مسؤولية فارغة المضمون، وقال كل ما يرضي المخزن، وطمأن كبار الخائفين من المحاسبة، والمتورطين في الفساد. لقد قال بنكيران في صراحة غير معهودة، إنه أثناء فترة مظاهرات 20 فبراير، كان يمضى أيامه غاديا رائحا للقاء المسئولين، الكبار منهم على الخصوص. ومن ذلك نفهم أن تسلم الحكومة كان مسبوقا بأشياء لن تكون سوى تنازلات، فهل كان كل أولئك الذين كان يقابلهم ممثلين للملك ؟ وهل كانت التنازلات التي يقدمها لهم، إنما يقدمها للملك ؟ إن من عادة رجال المخزن أن يستغلوا الجلال الذي يتمتع به القصر لدى الرعية، لتمرير ما يعبر عن مصالحهم الخاصة لا غير. إن من عادتهم دس أغراضهم مع أغراض الملك وتمرير هذا مع ذاك. هذا ما وقع لبنكيران. وقد كان ممكنا استغلال المأزق الذي وجد فيه المخزن نفسه، لفرض تعديل في موازين القوى، يسمح بمباشرة إصلاحات حقيقية تعالج هذا الاستبداد وهذا الفساد الذي اشتكى منه المغاربة ولا يزالون. وها هي النتيجة، فبعدما تم تمرير دستور غامض، وتنصيب حكومة بدون سلطات حقيقية في يدها، وبعد شهادة الخارج بأن النظام المغربي تفاعل بإيجابية مع مطالب التغيير، بعد ذلك تم تسليط الأحزاب الممخزنة والزعامات المسخرة، لإغراق الباخرة التي أنقذت المخزن نفسه من ورطته، ومعه المرتبطون به من ذوي المصالح التي تعارض مصالح الشعب ومصالح الشعب تتعارض معها.