تقوم السياسة الرسمية للدولة على أساس عدم السماح ببروز أي قوة حية و منظمة و مستقلة، و سلوك سياسة ترمي على المدى البعيد إلى عزل المواطن من أي سلاح عقدي و تنظيمي، و جعله ضعيفا و مكشوفا أمام قوة المخزن. و هي المهمة التي انتهت بنجاح في مواجهة كل القوى الحية الموجودة غداة الاستقلال و إلى اليوم. سمحت الظروف، ظروف مواجهة الاستعمار ببروز قوى كانت لها نفس أهداف السلطان المنفي، لكن بعد عودة المياه إلى مجاريها كان أول ما فعله المخزن التخلص من حلفاء الأمس، إنه حزب الاستقلال و الاتحاد المغربي للشغل و المقاومة و جيش التحرير و أحزاب منطقة الشمال. هذه القوى كان رصيدها قد انتفخ بمواجهاتها مع سلطات الحماية، فكانت خير معين للملك المنفي، و جليسا مرفوضا من طرف أركان المخزن. و لأن للمخزن في المغرب قدرة خارقة على التكيف مع المستجدات و التجاوب السريع مع الأحداث، فقد عادت و بسرعة آلية مواجهة هذا المعطى الجديد. آلية المواجهة إلى جوار آليات أخرى جميعها أعطى ما نعيشه اليوم من شلل تام في هياكل جميع القوى السياسية الوارثة لرصيد الحركة الوطنية، و حتى المصنوعة في مطابخ مهندسي المشهد السياسي. هذه الآليات يمكن تلخيصها في : أولا : آلية الانشقاق بما أن حزب الاستقلال كان القوة الكبرى في الساحة و القوة التي لم تخف نواياها للسيطرة على الحكم، فإن المعركة ابتدأت به. إذ ما كادت تمر ثلاث سنوات على الاستقلال حتى تم تفجير الحزب و انشطر عنه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هذا الأخير كان مسبحا حيويا لكل الثائرين و الرافضين للوضع، تعرض بدوره للتفجير وعنه انشق حزب الاتحاد الاشتراكي عام 1975 و عن هذا الشق انشق حزب الطليعة الديمقراطي عام 1983. منظمة العمل في فكرها قريبة من أحزاب اليسار، ثم تفجيرهما عام 1996 و عنها انشق الحزب الديمقراطي الاشتراكي. في نفس العام انشقت جبهة القوى الديمقراطية عن حزب التقدم و الاشتراكية. عناصر أخرى من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اختلطت و خرج منها ثلاثة أحزاب الحركة من أجل الديمقراطية، المستقلون الديمقراطيون و النهج الديمقراطي الثقة معدومة حتى في أحزاب اليمين و عليه انفجرت الحركة الشعبية شطرين عام 1965، بعدها ينشق أحرضان ليؤسس حزبا ثالثا. حزب التجمع الوطني للأحرار أسس عام 1978 لينفجر بعد عامين على يد أرسلان الجديدي ليكون الحزب الوطني الديمقراطي، بعد عامين ينشق التجمع من جديد و يظهر الاتحاد الدستوري. أحزاب اليسار و اليمين و الوسط كلها تعرضت للتشظي، كانت لذلك عوامل داخلية كغياب الديمقراطية الداخلية، لكن كانت أيدي الاستخبارات حاضرة دوما، تستدرج الزعماء و تصطاد، و توجه و تقود من بعيد و بحرص شديد، كما أن العميد السابق للمخابرات المغربية أحمد البوخاري يفصل أكثر في موضوع الاختراقات، فنونها و ألاعيبها داخل جميع الأحزاب. كما أن القوانين الانتخابية طلت دوما تشجع على التشظي و لا تدعم أي عقلنة ترجى. ثانيا : آلية القمع هذه الآلية نشطت بموازاة مع آلية الانشقاق، و الحقيقة هي أن حزب الاستقلال كان السباق إلى سلوكها ضد معارضيه لما كان القوة الأساسية في البلد من عناصر المقاومة و أعضاء جيش التحرير و نشطاء حزب الشورى و الاستقلال. بعد ظهور المد الاشتراكي في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و اصطدام مكوناته مع السلطة و اختياراتها، نزع كثير من المناضلين إلى تكوين خلايا تؤمن بالثورة و ضرورة إسقاط النظام، بعض تلك الخلايا انطلق إلى التنفيذ. تدربت الأفواج في الجزائر و سوريا و ليبيا و جلبت الأسلحة و تسللت الأفواج عبر الحدود، كل هذا والسلطة تراقب و ترصد، فلها عيون و آذان، لديها الخطط و البرامج و الأسماء و الصفات. سادت حملات القمع طوال الستينات و السبعينات و الثمانينات، سجن اللالاف أو اختطفوا، و لأجل ذلك فتحت سجون سرية و دور جهنمية، و عقدت المحاكمات و نفذت الاعدامات. هذه المدرسة آثرت على حركات الاحتجاج و الرفض. و الرواية نفسها. يغضب المناضل من الوضع و يحلم بالأحسن، يستفزه الظلم و اللاعدالة و سوء توزيع الثروة. يجد الباب مسدودا، فينظم إلى خلايا ثورية و قد يتدرب و يحمل السلاح، ترصده الأجهزة تستدرجه فتصطاده. يقاد إلى المعتقلات و الدور السرية ، يعذب ينكر و ينكر، و عندما يواجه بصحيفته يجد فيها كل ما قاله و فعله أو نوى فعله مسطورا. و يدفع إلى المحكمة – إن سلم من الموت – يسجن و ينساه الناس. هذه المسيرة خرجت مناضلين فاقدي الثقة في المستقبل بائسين محطمين، ساخطين عن الشعب الذي لم يناصرهم في محنهم و من هنا يدخل إبليس فيقتنع المناضل بأن الشعب ليس في المستوى و الحل في الواقعية و احترام الخصم و حدود الإمكان. بهذه الآلية عجت الساحة بقادة و نشطاء غدوا واقعيين أكثر من اللازم. مستسلمين شركاء للسطلة في تدعيم أركان المحافظة و الركون إلى ما لا مفر منه . ثالثا : آلية الاحتواء هذه الآلية ذكية خفية مؤثرة، خيوطها سرية و ثمارها علنية. و الاحتواء يعني تمكن السلطة السياسية من جر القوى السياسية المعارضة إلى تبني العقيدة الرسمية للدولة، و التماهي مع اختياراتها الكبرى و حتى الصغرى إن أمكن، و تقليص هامش الاختلاف إلى أبعد حد ممكن، بين رؤى المعارضة و ايديولوجية الدولة. للاحتواء مداخل عديدة منها استغلال الطموح الشخصي، و الرغبة في المركز و المنصب و ما يدور في فلكهما من امتيازات و منافع، يتلقى الناشط السياسي أو النقابي أو الزعيم أو القائد و عودا مغرية فيعمل هو بنفسه على جر تنظيمه إلى أطروحات الدولة. و قد يؤدى الطموح إلى توسيع مجال المصالح المالية أو المصاهرة بعائلة راقية إلى تليين المواقف و إرسال إشارات التحول في القول و الموقف و الفعل . بهذا الأسلوب وضعت الدولة جميع أحزاب الخط الديمقراطي في نفس السلة. ثم احتواء المقاومة و جيش التحرير و الاستقلال و جميع فصائل اليسار و العدالة و التنمية على نفس الخط تمشي. يقول أحد زعماء اليسار متحدثا في الموضوع : " فرجالات اليسار التقليدي و الجديد يلهثون اليوم وراء سلطان الشهوة وفتات مائدة الدولة، منبثون بالمآت في كل إدارات الدولة و أجهزتها، كوزراء و كتاب عامون و مستشارون وموظفون في الوزارات و الدواوين و مندوبون في الأقاليم و العمالات، بدون أي مشروع سياسي نهضوي ". ( امحمد طلابي نقد العقل السياسي المغربي ص 33 ). لنقارن بين مشاريع اليسار أيام الرغبة في إسقاط النظام القائم و تأسيس دولة الشعب و ضمان الحرية و العدل و الكرامة، و بين حالة العيش الرغيد في دواليب الدولة و مواقف الانبطاح التام أمام اختيارات الدولة " الرجعية و العملية " كما كان يقال . لكن لنحذر الاستثناءات و لو كانت لا تعمل إلا على تأكيد القاعدة. إن أسلوب المواجهة المباشرة أو القمع و الاحتواء أو التدجين للقوى السياسية في المجتمع ليس سوى استمرار لتقاليد ضاربة في القدم تخص المخزن. فتحت ظل سلاطين و أمراء الدولة العلوية عمد المخزن إلى تسوية الأرض و تطهيرها من كل قوة سياسية منافسة أو محتمل خطرها. فالزوايا التي شكلت منذ ضهورها في عصر السعديين إطارات تنظيمية سياسية تؤطر القبائل لقيت دائما من المخزن معاملات تتراوح بين المواجهة المباشرة و الاحتواء أو التدجين. أول ما دشن به السلطان مولاي رشيد عهده تخريب الزاوية الدلائية، منارة العصر، و تسويتها بالأرض و تغريب شيوخها سنة 1668 و كل ذلك لأنها فكرت في التحول إلى سلطة حاكمة تحت إغراء ما كان في المغرب من فتن و تفكك و ضعف. نفس المصير عرفته زاوية أيت علي امهاوش على يد المولى سليمان عام 1880 م بعدما فكر شيخها في غزو مركز الحكم. أحزاب ذلك العصر كانت تتعرض للتصفية كلما لاح للسلطان أنها تفكر حقا في قلب نظام الحكم. عكس ذلك، نشطت آلية الاحتواء من طرف جميع السلاطين عبر تدابير مثل تخصيص الشيوخ بظهائر التوقير و الاحترام، و إعفاء الزوايا من الضرائب، ومنحها الغرائب و الاقطاعات و قيام السلطان بتنصيب شيخ الزاوية ليصل الاحتواء أوجه بتعيين شيخ الزاوية قائدا. هذه السياسة لا تزال سارية إلى الآن. و الهدف هو نفسه إفراغ الساحة من كل قوة منظمة حية مستقلة، و الاستفراد بالمواطن وجها لوجه. العاهل متبوع و الرعية تابعة و لا وسيط بينهما. لكن العاهل لا علاقة له بالمخزن، إذ يمكنه في أي وقت تقريب المناداة على ما يعتبر المخزن عدوا إذا رأى مصلحة في ذلك، و قد لا يعبأ بما يعتبره المخزن وفيا مرضيا عليه. لا شيء يلزم العاهل سوى ما يحمله من مسؤوليات دينية أو تاريخية. عام 1964 نادى الحسن الثاني على الشهيد بنبركة و هو محكوم بالإعدام، عام 1997 نادى على اليوسفي و هو ثائر سابق، و عام 2011 كان بنكيران رئيس حكومة و هو انقلابي سابقا.