إن صحافة الناس ومقالات الوسواس وتحليلات الخناس، لتوحي بجهل مطبق أو تجاهل مقصود يراد منه التشويش والتخذيل وبث الشكوك ونشر اليأس في النفوس، يتولاه بعض وكلاء وأذيال المردة وفراعنة الفساد، يودون أن تبقى دار لقمان على حالها، بفسادها واستبدادها وجبروتها. تجد أحدهم يتتبع الحكومة، يحصي عليها الشاذة والفذة؛ ليس من باب واجب النصح والتقويم والبناء والتكميل، بل قصد الهدم والتضليل والمعارضة بدون تبرير، فقط لأن الطرف الآخر تبنى الإسلام دينا ورفض البديل، وأفصح عن نية الإصلاح وبدا عليه الصدق والعزم على التطبيق، وعاهد الشعب على الوفاء للعدل من غير نكوص ولا تبديل؛ فيذكرني هذا السلوك المشين ببعض أساتذة الظلم، يمسك بقلمه الأحمر قصد التصحيح والتنقيط، لا باعتبار الاستحقاق والعطاء والفهم للدروس وحسن التدبير، بل فقط باعتبار الاسم والعنوان والنسب والمهن والوصية من فلان وعلان, فحصل التردي المعروف والتخلف الملعون في التربية والتعليم ... لا غرو أن كل تخلف بعد هذا يهين، بعدما ساد الظلم في قطاع التعليم وأصبحت الرشوة مفتاح التوفيق. إن مثل هذا الوضع غريب، وأغرب منه حينما تجد أحد هؤلاء الفاسدين المفسدين أصبح يظن أنه مثل يوسف الصديق "عليه السلام "، يملك خزائن الرزق ومفاتيح التنمية والتمكين، إذ يريد أن ينصب نفسه مصدر الإصلاح وبديلا عن حكومة صناديق الاقتراع، ناسيا أنه كان بالأمس ممسكا بالقرار وحاكما بلا رقيب ولا معارضة تمنعه من التبديد. لقد ضل سنوات ينهب البلاد ويصادر ممتلكات العباد, ممنيا الناس بيوم العيد والرفاه وجناة الخلد بغير حساب، فأرداهم في الغي والضلال والفقر والضياع. والآن يريد أن يرجع إليهم في ثوب ملك كريم، يخاف الله ويتقيه في كل حين؛ يحاول أن يوهمهم بأن له حلولا سحرية بلا حدود، وأن غيره ليس إلا دجالا ومهرجا في ما يقول، وجاهلا بالسياسة والاقتصاد وتدبير دفوف الحكم، ظانا أن سحره سينطلي مرة أخرى على الشعوب، فيسلمون له بلا شروط ويثقون فيه بلا قيود... فلا أدري هل أصابه العمى أو خبل العقول، إذ كيف يعقل أن يحكم الناس بعد أن عاث فيهم بفساد، أنسي عقود الاستبداد، التي ولت مدبرة بفضل رحمة الرحمان ثم بقدوم ربيع العربان، فتولى الأمر أولئك الذين يحسبهم هذا سوقة من الشعب لا يدرون شيئا ولا يفهمون أمرا ذا بال؛ ليصلحوا ما أفسد وفق سنن السماء، واعين بمعضلة الحكم وصعوبة الوضع وخطورة التماسيح والذئاب, مستعينين في ذلك بالواحد القهار, غير مبالين بالنياح ولا بالنباح، والتدرج عندهم ضرورة يقتضيها الحال، والصبر على صعوبة الأمر خلق لا ينسى مع تعاقب الزمان وتوالي الأيام...لا يودون تكريس الانتقام وعقاب أعمى بلا جريرة ولا ذنب قد بان، متجنبين بذلك الاحتقان، منفقين العفو للناس، وهم في هذا على نبراس حبيب الرحمان (ص)، الذي عفا برحمته عن قريش بعد كفر وعداوة لا نسى وتضحية كبيرة في المنفى. وكذلك تاريخ الوطن، الذي فضل الصلح والإنصاف بين حكامه ومواطنين قد نالهم ظلم بواح، من غير أن ننسى عفو الوطن ومغفرته لمن حاربه في الصحراء قاصدا بذلك نشر الوئام والأخوة والحب بين العباد... غرضهم تجنب تبديد الجهد وضياع الوقت على حساب تسريع الإصلاح وتركيز الفكر على حسن تدبير البلاد، وتوزيع الثروات على كل معوز قد جاع وأمي قد ضاع...وإن كنت تجدهم تارة يصرحون بكلام غير مفهوم، ينقصه ربما الشرح البسيط والتوضيح الجميل، كقولهم "عفا الله عما سلف" الذي أريد به - في ظننا- تنبيه اللبيب ممن خاف أن يحاسب على ذنب قديم أو يؤخذ بجريرة أبيه، قضى نحبه وصفيت ثرواته ونسي أمره. وقد تكون إشارة لمن فر بماله من الداخل أو فكر أن يفعل ذلك خشية بؤس حكم جديد، رجاله عرفوا بلحاهم تخيف الجاهل وتنفر الوافد من الخارج، لسياحة أو استثمار موارد؛ لكي لا تحدث أزمة ترجع سلبا على المواطن، فيقل شغله وتزيد معاناته فيظن سوءا بالحاكم ... وتارة تجدهم لا يعرفون كيف يسوقون مشاريعهم ويشهرون برامجهم ويدافعون عن قراراتهم، لهذا يسبقهم سليط اللسان وكثير الكلام وكذاب ممتاز؛ يحسبه الناس يود خيرهم بامتياز, إذ يوشك أن يقع بينهم وبين الحكام، ليرجع إلى مكانه بلا استحياء، فإذا بالله يفضحه، وينزع عنه قناعه؛ إذ هو من جار بالأمس على الإخوان وسرق مال البلاد واستبد طول الزمان، فيخسر مرة أخرى الرهان على محك نتائج الانتخاب، فيلفظه الشعب ويلعنه بكل ألفاظ السباب... فيحق الحق ويزهق الباطل، ويسير الركب نحو المراد، فيعرف الناس حينئذ أن ما فسد طول الزمان لن يصلح إلا بكثرة الأعمال وطول الأنفاس، لأن الوقت جزء من العلاج، وأن الحرب طويلة مع الذئاب، وأن نصرتهم للحق تدك الجبال وتقضي على اللئام، وأن بعدها لا شك سيصفو الجو في البلاد، ويرجع الأمل بفضل رب العباد، فيحمد على هذا الوئام؛ آنذاك يعم الفهم ويسود السلام.