لكم فكرت في حقيقة مرة وواقع محير، ذاك الذي يكاد يجمع عليه الشعب وتذعن له رقاب أغلبية جرى العرف على تسميتها ب"الأغلبية الصامتة"، لأنها تلوذ إلى الصمت واللامباليات كلما دعيت إلى التعبير عن رأيها وإرادتها بخصوص اختيار ممثليها ومسؤوليها عبر التصويت والمشاركة السياسية المباشرة. فلا أدري أهو كفر بالسياسة والسياسيين، ويأس من طالع صناديق الاقتراع؛ لكثرة تزويرات الماضي وطبخ نتائجها من قبل كل من تربع على كرسي الداخلية. قد يصدق هذا، كحقيقة تاريخية تحمل وزرها أولئك الذين سخروا من أحلام المواطنين وضيعوا حقوقهم حينما بوؤوا سفهاء القوم المقامات العلا، وأهدوا خيرات البلاد للأراذل والمرتزقة...من غير أن يفكروا في محاسبة التاريخ لهم أو تبعات عقبى الدار. لكن هذا - في ظننا- ليس سببا كاف لتبرير الهجر والتنكر لنداءات المسؤولين وتوسل الساسة الصادقين وإلحاحاهم المتكررة، في كل مرة جرت فيها الانتخابات، على ضرورة المشاركة المكثفة،. بل نعتقد أن اللجوء إلى الصمت مرض مزمن، مورس إبان سنوات التزوير المفضوح والواسع لنتائج الاقتراع. يكفي للتأكد من ذلك الرجوع إلى نسب المشاركة الفعلية والحقيقة التي سجلت إبان كل استحقاق نظمه المسؤولون قبل الربيع العربي. إن الذي يزيد المراقب والدارس حيرة في هذه الحقيقة أن نسبة اللامبالاة ترتفع في أوساط الأطر والمثقفين أكثر من غيرهم، كأن هذه الفئة تريد أن يستهدي بها الناس؛ لأنها فهمت اللعبة واستوعبت اللغز وتأكدت من حدة ذكاءها واستيعابها لدروس الماضي السياسي للبلاد، وذلك من غير أن تشرح موقفها لعامة الناس أو تصرح ،بدون مواربة ولا تلكئ، عن سبب عزوفها وهجرها هذا لكل المسؤولين؛ لتتحمل عبء المواجهة وتبقى وفية لخط وسلوك مثقفي العالم النضالي والرائد في احتجاجاتهم من أجل الإصلاح والتغيير، ومن غير كذلك أن تقوم بحملات توعوية في الأوساط الشعبية المسحوقة التي تعتبر الجيش الاحتياطي الذي تعتمد عليه تلك الشرذمة المستحوذة طيلة هذه العقود على زمام الحكم، المستغلة لخيرات البلاد وثرواته، لتقول لهم لا تبعوا أصواتكم لهؤلاء، فإن في هذا بيع لذممكم وشرفكم، أيعقل أن ترهن بلدكم ومستقبل أبناءكم مقابل دريهمات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع. قد يقولون إننا نخاف من ردود فعل المستبدين والمفسدين ومن بطشهم، نخاف أن يفعل بنا كما فعل بشيع الأولين من المناضلين والمناضلات من كل الفصائل المثقفة، ناسين أن لا سبيل للعيش الكريم والديمقراطية الحقة بدون مقاومة ولا مواجهة، فتلك سنة الخالق في التغيير والإصلاح، غافلين عن أن الحرية والكرامة والحق لا يعطى ولا يمنح من غير محنة ولا بلاء، فإذا ضنوا هم بأنفسهم وشحوا بأفكارهم وأوقاتهم وكل غال عندهم، فمن لهذا الشعب إذن لينقدهم من افتراس التماسيح والوحوش التي لا تبقي ولا تدر. حيرة أخرى تنتابني حينما أقرأ أوأستمع لبعضهم وهم يبحثون عن التعلات والتقعيدات لموقفهم هذا، إذ جعلوا من صمتهم حكمة ومن إعراضهم سلوكا قرآنيا، لكونه يجسد آياته الكريمة كمثل قوله عز وجل: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" و قوله سبحانه وتعالى: " وأعرض عن الجاهلين". وزادوا لدعم تبريراتهم لاعتزال الساسة والسياسيين أقوال المصطفى عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه : "إذا رأيت شحا مطاعا أو هوا متبعا...فالزم بيتك"، ونصوصا أخرى لا داعي لذكرها هنا. لقد صدق الله العظيم ورسوله وأخطأ هؤلاء في قراءتهم المجتزءة والمنبثة أولا لنصوص القرآن؛ إذ السياق القرآني سياق أخلاقي رفيع في هذا المقام؛ لكونه يهذب ويرشد السلوك اليومي للمسلم والمؤمن في علاقته مع جهالة وغلظة بعض الناس وتفاهة كلامهم ومواضع نقاشاتهم، فمن الافتراء وضيق الأفق أن نعتبر الأمر الرباني الوارد هنا حثا على الإعراض عن السياسة والسياسيين، فكيف يعقل هذا والسياسة في تعريف بعض الفقهاء هي: " السعي الحثيث في تدبير أمور الناس بما يصلح شأن دينهم ودنياهم" . ويدعم هذا الفهم الرفيع عند فقهاءنا نصوص أخرى من القرآن، يتعامى عنها الصائمون عن السياسة، كقوله سبحانه وتعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر..." وتتظافر آيات القرآن هذه مع تلك التي تتكلم عن الاستخلاف والخلافة والشورى والاستشارة، لتضعنا على النهج الصحيح والفهم الرصين لنصوص القرآن. ثم ثانيا لنصوص الحديث إذ ينزلونها تنزيلا خاطئا لأنها - حسب الشراح الموثوق منهم - وردت مع أحاديث أخرى رواها نفس الصحابي الجليل في معرض الحديث عن الفتن الكبرى والسلوك الأقصى الذي يجب أن يتبناه المؤمن حينما تختلط عليه الأمور ويخشى على نفسه الفتن والضعف ولا يقوى على تغيير المنكرات وإصلاح أحوال البلاد والعباد فيعتزل الناس ويلزم خاصة نفسه. هذا الشرح القويم لهذه النصوص تعضده سنة الرسول الكريم والصحابة الراشدين معه ومن جاء من بعدهم من مخلصي هذه الأمة؛ حيث ما فتئوا من العمل والسعي والجهاد من أجل رفع الضيم عن المستضعف، وتيسير حياة اليتيم والفقير والمسكين، وإغاثة الملهوف وابن السبيل، وتحرير الناس من الجهل والكفر والجور و وكل طغيان مبين، واعتبروا أن كل من تنكر لهؤلاء وانزوى عنهم وهجر أمرهم ليس منهم؛ وذلك توافقا مع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: " من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" أو كما قال. وأكدوا في شروحاتهم المستفيضة أن الذي يخالط الناس ويصبر ويصابر على أذاهم وإصرارهم على الفساد والاستبداد خير من ذاك الذي يعتزل الناس مخافة أن يتلوث أو يعذب أو يأخذ بذنوبهم، وهذه الأفضلية وردت بخصوص من انزوى عابدا ناسكا ذاكرا؛ كما وقع الأمر مع أهل التصوف والزهد حينما اعتزلوا السياسة والخوض في معركة الفكر والاعتزال، لما ابتلوا بقضية خلق القرآن وبتسلط الحكم العاض أو الجبري؛ الذي ألغى حق الأمة في الشورى واختيار حكامها، وصادر رأيها في طرق تدبير أمورها وتوزيع ثرواتها. أيستوي هؤلاء بأولئك وهم قد تلاهوا عن أمر شعبهم ووطنهم وسكتوا عن الظلم والظالمين، وربما شاركوهم فيما فيه مصلحة خالصة لهم ولذويهم عبر صفقات مختلفة. لا شك أن السكوت على الظلم، مع القدرة على الدفاع بالكلام والقلم والمال والنفس، ظلم كبير للأمة وللشعب؛ لهذا وصفه المصطفى عليه الصلاة والسلام بالشيطان الأخرس. حري بنا أن نتمعن هذا الأمر مليا، لنصحح مفاهمنا ونراجع مواقفنا بخصوص العمل والمشاركة السياسية، فلا عيب أن يغير الأفراد والجماعات أفكارهم ومسارهم الحركي إن رأوا العيب بارزا في مسلكهم القديم وبرامج عملهم واختياراتهم الاستراتيجية. العيب فقط في الإصرار على الغي والقراءة المعوجة والشرح المغلوط أو المضلل، وذلك قصد وصول مآرب شخصية أو جماعية تطبعها الأنانية والتعصب أو تحكمها السذاجة والغباوة والسطحية والتبسيط والسلبية. لا غرو أن حاجة الشعب إلى كفاءاته وكل طاقاته ملحة ومستعجلة؛ لتتظافر جهود الصالحين المصلحين ضد الفاسدين المستبدين، وتقوى مصادر الخير ومنابع التقويم في جبهة واحدة، لعلها توفق للنجاة بالسفينة من أعاصير الاستغلال و غيوم الظلم والطغيان إلى شاطئ السلام. إن هذا الأمر ليس إرغام الناس على العمل بالسياسي والانخراط في مؤسساته المختلفة، فهذا الشأن خاضع لاختيارات الفرد وطموحه واستعدادات المرء وكفاءته، فالأمر في الحقيقة لا يعدو أن يكون دعوة للمساهمة في دعم الحق وجبهته ومساندة الإصلاح ودعائمه، ولو بأضعف الإيمان؛ كأن تشارك بصوتك لصالحه أو تكتب منافحا عن دعوته وأشخاصه أو تشرح سياسته وتخبر بمشارعه لمواطن عله يستفيق من سباته ويهتدي إلى خيره، حينئذ تنحصر جبهة الفساد والاستبداد ويطلع فجر الأمل والنمو والازدهار، وينادي منادي الانعتاق والحرية والحق والسلام ألا رجعة إلى الظلم والظلام.