وأنت تتجول بين أزقة المدينة القديمة بطنجة، تحس وانك تتجول داخل متحف حقيقي، فما بين منازل ذات طابع مغربي صرف تمزج بين المعمار الإسلامي والأندلسي، تتراص على منحدرات خفيفة بشكل متمايل، تصادفك منازل أخرى ذات طابع أوربي مزينة بأقواس وأعمدة وأشكال هندسية تعبر عن الطابع الدولي الذي مرت منه طنجة وترك بصماته الواضحة في ألسن ساكنتها ومعمارها سواء بمنطقة مرشان أو المدينة القديمة أو شارع باستور. لكن ما يحز في النفس أن تجد الكثير من هذه البنايات تعاني الإهمال حتى أصبحت معرضة للانهيار الجزئي أو الكلي في أي لحظة. ومن بين أبرز هذه المنازل التي شكل صاحبها إشعاعا فنيا وثقافيا ساهم في تسويق اسم طنجة في كبريات العواصم والمدن العالمية، نجد منزل الفنان المغربي العصامي الذي استحق بأعماله لقب أب الفن المغربي التصويري، محمد بن علي الرباطي. ويقع منزله على الشارع الأيسر المجاور لمتحف القصبة للثقافات المتوسطية. ولد الفنان محمد بن علي الرباطي بمدينة الرباط سنة 1861، واستقر مع أسرته بمدينة طنجة سنة 1866، وابتداء من سنة 1903 سيحصل على وظيفة طباخ لدى السير البريطاني (sir john lavery) الذي استقر بطنجة انطلاقا من سنة 1890، وكان فنانا معتمدا في البلاط الملكي البريطاني. وتميز محمد بن علي الرباطي بافتتانه بالرسم التصويري، فحصل على دعم ومساندة مشغله. وما يميز المسيرة الفنية للرباطي هو العصامية، بحيث أنه لم يتلقى أبدا أي توجيهات أو تقنيات عن الرسم، بل فرض أسلوبه وطابعه الخاص في ميدان الرسم التشكيلي. وابتداء من سنة 1916 سينظم له sir john lavery).معرضا بأشهر المعارض الفنية بلندن وهو معرض (the Goupile)، وكان هذا الحدث سابقة في بريطانيا بحيث لم يسبق لأي فنان مسلم عرض أعماله الفنية ببريطانيا. استمر الرباطي في عمله لدى (sir john lavery). إلى غاية انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث قام مستخدمه ببيع ممتلكاته بطنجة والعودة لبريطانيا، فتوجه الرباطي إلى مدينة مارسيليا الفرنسية ليستقر بها من سنة 1919 إلى سنة 1922، فاشتغل خلالها بمعمل للسكر، وتلقى دعوة من المدير العام لمصلحة الفن المعاصر بالحماية الفرنسية على المغرب السيد (Ricard)، لكي يقيم معرضا بقصر المامونية بالرباط سنة 1922. انطلاقا من سنة 1925 سيلتحق محمد بن علي الرباطي بالجيش الاسباني بمنطقة الحماية الاسبانية شمال المغرب الذي عرف بالطابور الاسباني كإطفائي، وبعد سنتين ترك الجيش الاسباني، وعمل لدى بنك بلباو الكائن آنذاك بزنقة الحاج محمد الطريس بطنجة كحارس وناقل للرسائل. خلال هذه الفترة استمر الرباطي في رسم اللوحات وإرسالها إلى sir john lavery) بتوقيعه الخاص (تمت بحول الله من قبل خادمه بن علي ). وسيحصل الفنان الرباطي سنة 1933 على عرض مهم يتمثل في قيام مندوب السلطان بطنجة بمنحه مرسما بقصر رياض السلطان بالقصبة، لكن الرباطي سينقل مرسمه بعد سنتين إلى زنقة 64 بالقصبة، حيث بات بإمكانه بيع لوحاته تلبية لمختلف احتياجاته اليومية، وسيتمكن انطلاقا من سنة 1937 من افتتاح مطعم بزنقة عبد الصادق ليمارس ولعه بالطبخ كذلك. وقد توفي محمد بن علي الرباطي بعد حياة حافلة بالعطاء الفني والكفاح وتحقيق الذات، وأصبحت لوحاته ذائعة الصيت في مختلف المحافل الفنية. كما وضعت بعض أعماله على الطوابع البريدية المغربية، تكريما وعرفانا له، كما لا يزال الرباطي يكرم في مهرجانات ومنتديات فنية عديدة سواء داخل المغرب و خارجه. إن حياة محمد بن علي الرباطي تقودنا لا محالة إلى سؤال الحفاظ على التراث وتثمينه وتوظيفه بما يحفظ استمراريته، وينعكس على التنمية الاقتصادية للمدينة. لكن الوقوف عند منزل الرباطي بالقصبة ورؤية تهالك البناية وتضررها بشكل واضح، وتراكم الأزبال عند مدخلها، يقودنا إلى الحديث عن حقيقة مشروع إعادة الاعتبار للموروث التاريخي لطنجة، والتي تعتبر دار الرباطي من بين أبرز معالمه. فما المانع من تأهيل دار الرباطي وتحويلها إلى قبلة للفنانين التشكيليين؟ وما المانع كذلك من تحويل دار الرباطي إلى معرض دائم للوحات الفنية ؟ إن الاهتمام بالموروث التاريخي لطنجة يقتضي وضع خطة إستراتيجية، تروم إحصاء مختلف البنايات التاريخية، والتأكد من أهميتها وأدوارها التاريخية، وإعادة تأهيلها وتوظيفها، و إدماجها في التنمية السياحية المحلية، وربطها مع مختلف المعالم والمسارات السياحية بالمدينة، فلا يمكن الحديث عن تأهيل المآثر التاريخية بطنجة، وتنفيذ مشاريع كبرى من قبيل الميناء الترفيهي طنجة مارينا، دون التفكير والتخطيط الجدي في الهدف والجدوى من ذلك: صيانة الموروث الثقافي وإدماجه في التنمية الاقتصادية، والتسويق العالمي لطنجة كمدينة فريدة بتاريخها وجغرافيتها وفرصها الاستثمارية.