في لحظة سياسية مشحونة بالتوتر وإعادة التموقع، اختار الزبير بن سعدون أن يخرج من صمته، لا من داخل المجلس، بل من على حائطه الفيسبوكي، مُرسلا إشارات لا تخطئها العين إلى من يعتبرهم المسؤولين عن الوضع الذي آلت إليه أصيلة. بن سعدون، الذي ظل لسنوات خصماً شرساً للرئيس الراحل محمد بن عيسى، ثم طواه النسيان بعد سقوط مدوٍّ في قضية تهريب مخدرات، عاد الآن بصوت مرتفع وكأن شيئاً لم يكن. ولمن نسي أو تناسى، فإن الزبير بن سعدون كان قد جُرّد من مهامه التمثيلية بمجلس بلدية أصيلة سنة 2013، بعدما أصبح فاقدا لأهليته الانتخابية بموجب حكم قضائي يقضي بسجنه ثلاث سنوات نافذة على خلفية تورطه في قضية تتعلق بالتهريب الدولي للمخدرات. سنة بعد ذلك، وتحديداً في 2014، تم توقيفه رسميا من طرف المصالح الأمنية بمدينة طنجة، حينما كان جالسا بأحد المقاهي، ليُطوى بذلك فصلٌ صاخب من مساره السياسي، وينطفئ صوته داخل المجلس الذي لطالما شكّل فيه نقطة توتر دائمة. وطوال سنوات ممارسته، كان بن سعدون معروفا بخطابه المعارض الحاد، وبموقفه المستقل التوازنات السياسية، وهو ما جعله على الدوام في مواجهة مفتوحة مع مؤسسة الرئاسة خلال مرحلة بن عيسى. واليوم، وبينما تمر أصيلة بمرحلة انتقالية دقيقة، يجد الرجل في لحظة الغياب فرصة لإعادة إحياء صوته، ولكن من خارج المؤسسة، مستندا إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه رسائل مباشرة وأخرى مشفّرة. واللافت أن بن سعدون لا يتحدث كسياسي عادي يتفاعل مع مشهد متغيّر، بل كمن كان ينتظر لحظة الانقضاض على الذاكرة الجماعية. فتدويناته الأخيرة لم تخلُ من نبرة تصفية الحساب، بل تجاوزت ذلك إلى إعادة كتابة الرواية السياسية للمدينة، وفق منطق: "لقد كنّا على صواب، وأنتم من تأخرتم في الفهم". في واحدة من تدويناته، قال: "بعد عقود، تم التصويت بكل حرية وبدون ترهيب… بعدما كان المنع مصيرها". قد تبدو العبارة في ظاهرها احتفالا بالديمقراطية، لكنها في باطنها سطرٌ ساخر على هامش عهد بن عيسى. لا حاجة لقراءة بين السطور، فالسطر نفسه يصرخ. وفي تدوينة أخرى: "لقد انتهى وقت الحزب الواحد والشخص الواحد…"، في إحالة لا تحتاج إلى معجم سياسي لتفكيكها. الرسالة هنا واضحة: لقد ولّى زمن محمد بن عيسى، ومَن يعتبر نفسه امتداداً له، عليه أن يُراجع موقعه. لكن أقسى ما خطّه بن سعدون جاء في عبارة: "لم نتحالف… لتطبيق وصية المتوفى". عبارة تُلخّص كل شيء: الكسر الكامل مع رمزية الرئيس الراحل، والتموضع في ضفة نقيضة تتبنى صراحةً رفض أي استمرارية سياسية لعهده. في عُرف السياسة، هذا ليس اختلافاً في الرؤية، بل إسقاط للرمز. الزبير بن سعدون لا يعود إلى المشهد كفاعل محايد، بل كمحارب قديم يرى أن لحظة غياب الخصم التاريخي هي الفرصة المناسبة لإعادة طرح الأسئلة المؤجلة. هو لا يُقترح كبديل، ولا يطلب موقعاً، لكنه يقدّم نفسه كذاكرة موازية، حاضرة خارج المؤسسة، وناطقة بما يعتبره الوجه الآخر من الحقيقة. هل هي تصفية حساب؟ أم تصفية ذاكرة؟ أم مجرد شهوة متأخرة للكلام بعد صمت طال أكثر مما يجب؟ في كل الحالات، أصيلة اليوم لا تقف فقط على عتبة مرحلة انتقالية، بل تواجه أيضاً ارتداد أصوات من الماضي تعيد طرح الأسئلة التي ظنّ كثيرون أنها طُويت إلى الأبد. ولعل المفارقة الكبرى أن هذه العودة لا تُحرّكها نتائج الانتخابات، ولا ترتبط بإعادة توزيع السلطة داخل المجلس، بل تُبنى بالكامل على لحظة رمزية: غياب الزعيم. وفي السياسة، كما في الغاب، غياب القوي يُغري حتى المتوارين بالخروج إلى الضوء، لا لتقديم البدائل، بل أحياناً فقط… لتذكير البقية بأنهم لم يكونوا وحدهم يوماً.