مع دقات الساعة التاسعة ليلا، تبدأ الأرصفة الممتدة في سور المعكازين وشارع المكسيك في مدينة طنجة في التحول إلى فضاء تقليدي مفتوح تنبعث منه رائحة الحناء، وتصدح فيه أنامل نسائية تبحث عن رزق موسمي في ظلال الاحتفال. نساء وفتيات، كثيرات منهن في وضعية هشاشة أو خارج سوق الشغل المهيكل، يجلسن القرفصاء على الرصيف، يفرشن مناديل صغيرة، ويشرعن في استقبال الزبونات بنقوش دقيقة تستدعي ذاكرة جماعية عميقة مرتبطة بمواسم الفرح والاحتفاء. ويتكرر هذا المشهد سنويا مع اقتراب عيد الفطر على الخصوص، حيث يُسمح ضمنيا لنقاشات الحناء بمزاولة نشاطهن في الفضاء العمومي دون ترخيص، في نوع من "التسامح الموسمي" الذي تتيحه الحاجة الاجتماعية، وتبرره الأعراف الثقافية. لكن خلف هذا التسامح، تختبئ معاناة نساء يعشن على هامش الاقتصاد الوطني، ويواجهن أوضاعا تفتقر إلى أدنى شروط التأطير والحماية. تقول مينة، وهي أرملة في منتصف الأربعينات تقطن بحي بئر الشفاء: "ما عنديش لا تغطية صحية لا ضمان، غير داكشي اللي يرضي الله فرمضان. الحناء هي مورد العيش الوحيد اللي بقا لي". وتضيف بابتسامة متعبة: "كنجي قبل المغرب وكنبقى حتى للثانية، شي نهار كاين الخير وشي نهار لا، ولكن أحسن من لا شيء". رغم أن النشاط يُمارس خارج الأطر القانونية، إلا أنه يخلق دينامية اقتصادية ظرفية تنعكس على محيطه التجاري، خاصة في الشوارع التي تنتشر فيها محلات بيع الملابس التقليدية والإكسسوارات النسائية. ويعترف أحد أصحاب المحلات بشارع المكسيك: "الحنانة كتشجع الحركة، الكليانات كيتجمعو حداها وكيقلبو على البلغة أو السبنية، راه كلها كتكمّل الأخرى". لكن من الناحية المؤسساتية، يظل هذا النشاط غير مدمج في أي من السياسات العمومية القطاعية ذات الصلة، رغم ارتباطه المباشر بعدد من الأولويات الحكومية، مثل النهوض بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وتمكين النساء، وتثمين الصناعة التقليدية. فلا وزارة السياحة والصناعة التقليدية، ولا وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى، ولا وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، ما زالت تدخلاتها محدودة لتفعيل آليات لتقنين هذا النوع من الأنشطة الموسمية، أو إدماج ممتهناته ضمن برامج التأهيل المهني أو التغطية الاجتماعية. وهو ما تعتبره جمعيات نسائية وحقوقية "ثغرة في تنزيل ورش الحماية الاجتماعية"، الذي انطلق فعلياً بعد تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض لفائدة الأشخاص في وضعية فقر أو هشاشة. ورغم توسيع الولوج إلى الخدمات الصحية، لا تزال شريحة عريضة من النساء الممتهنات للحرف غير المهيكلة خارج نطاق الاستفادة الفعلية، إما بسبب غياب التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو بسبب عدم توفرهن على معرّف اجتماعي موحد يتيح إدماجهن في قاعدة بيانات المستفيدين. في هذا السياق، تشير أرقام المندوبية السامية للتخطيط إلى أن نسبة نشاط النساء في المغرب لا تتجاوز 20%، مقابل أكثر من 70% لدى الرجال، في حين أن ما يقارب 80% من النساء النشيطات اقتصاديا يشتغلن في قطاعات غير مهيكلة، وغالباً في غياب أي تغطية اجتماعية أو حماية مهنية. وتُعد جهة طنجةتطوانالحسيمة من بين الجهات التي تسجل تفاوتاً حاداً في نسب الإدماج الاقتصادي بين النساء والرجال، خاصة في المجال القروي وشبه الحضري. وتعمل وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، في إطار برنامج "جسر التمكين والريادة"، على دعم النساء في وضعية هشاشة لولوج سوق الشغل عبر تمويل مشاريع مدرة للدخل، ومواكبة التمكين الاقتصادي الفردي أو الجماعي. ويستهدف البرنامج رفع نسبة النشاط الاقتصادي للنساء إلى 30% في أفق السنوات القليلة المقبلة، مع إيلاء اهتمام خاص بالمجالات المرتبطة بالصناعة التقليدية والاقتصاد التضامني. ويُجمع المتابعون على أن معالجة هذه الوضعية لا يمكن أن تتم عبر المقاربة الزجرية، بل من خلال الاعتراف بالحرفة وتوفير إطار قانوني ينظمها موسمياً، مع تخصيص فضاءات لائقة وآمنة لممارستها، وربطها بدورات للتكوين في شروط الصحة والسلامة. ويقترح البعض أن يتم تمكين هؤلاء النساء من صفة "الفاعلات في الاقتصاد التضامني"، ما يفتح أمامهن باب الاستفادة من البرامج الحكومية للدعم والمواكبة، وفق ما تنص عليه خارطة الطريق الجديدة للاقتصاد الاجتماعي. في طنجة، كما في مدن مغربية أخرى، لا تقتصر الحناء على كونها زينة لليد أو القدم، بل تتحول إلى وسيلة للعيش الكريم في سياق يتداخل فيه الجمالي بالاقتصادي، والرمزي بالواقعي. وبين نقوش دقيقة تُرسم تحت ضوء مصابيح الأرصفة، وأصوات خافتة تساوم على الثمن، تتشكل كل ليلة فسيفساء اجتماعية تُعيد طرح السؤال المؤجل: كيف يمكن لنساء يصنعن الفرح أن يشتغلن خارج أي اعتراف؟