مَا حَدَث بالعوَّامة أوَّلََ أمْسِ وبِغَضِّ النَّظر عَنِ الحيثيَّات القانونيّة للقضية -والتي لاَ يجب النَّظر فيها بمَعزِلٍ عن مُدخَلاَتِها ومُخْرَجَاتها، والظُّروفِ العامَّة الَّتي جاءت بها، والخُروقات التي تَسَبَّبَت بها بدءا من السّياسي الذي أقام مجدَه عليها رُخَصاً يرمي بها كاللُّقم إلى فَمِ الجَوعانِ، ومُروراً بالمُوظَّف الّذي طامَن على الخسف وخرق القانون، وانتهاءاً برجل الأمن الذي مرت تحت أنفه شاحنات محمّلة بما فيها ليلا ونهارا، كما شهد لنا به الناس المتاخمون للمنطقة- لَيُظهِرُ درجةَ التَّخبُّط التي تعيشه إدارتنا، والفساد الذي ينخر فيها، ومدى تجاسر فاسديها ومرضاها على إهانة المواطن لا يراعون فيه إلاًّ ولا ذمّة... ومن جهة أخرى، يظهر صحة ما ذهب إليه البعض من أنَّ ما سُمِّيََ بوُعودِ الإصلاح ليس إلاَّ كلاماً معسولاً وحبرا على ورق.. وكيف لا و روح الإصلاح إنما تقوم على مقاربَةٍ جديدة لمفهوم المواطنة على أساس من صونِ الكرامة واعتبار الإنسانية ناهيك عن الحقوق والحاجيات والممتلكات؟!... و بغَضِّ النظر عن الحيثيات القانونية للقضية دائما، لا يمكن للإنسان إلا أن يتعاطف مع صَيْحَات المرأة التي تصرخ بما كيل لها من ضربٍ وشتمٍ وإهانة.. لا يُمكن للمرء إلا أن يتعاطف مع بنت السِّتِّ سنواتٍ التي شُجَّت وهي لا تدري لماذا كل هذا الصّراع أصلا... لا يمكن للمرء إلا أن يتعاطف مع رجل اقتُحِمَت عليه خلوته مع زوجته وأبنائه... فلقد كانت هناك ألفُ وسيلة ووسيلة لإخلاء المساكن إن كان لا حقَّ لساكنيها فيها من وجهة نظر قانونية، ولكن ليس من بينها تكسيرُ الأبواب في الليل ومن وراءها الأنوف والأذرع.. أليس هناك مجتمع مدني وسياسي في البلد يرجع إليه لحل هذه القضايا ذات الحساسية العالية بالنسبة إلى ثقافتنا ووعينا وتقاليدنا خصوصا فيما يتعلق بالحرمات في فترة عصيبة ووضعية معقدة يمر منها الجميع؟ ألم يكن من الأفضل التدرج بالناس ومناقشتهم وحل القضية معهم من جذورها؟ ثم هل ارتفعت هذه الأبنية بين عشية وضحاها هكذا من فراغ؟ من رخَّص لها؟ ومن غضّ الطرف عنها؟ ومن سمح بعبور مواد البناء إليها؟ .. إن الناس يتحدثون عن أسابيع متطاولة من العمل الدَّؤوب خصوصا بالليل رغم وجود نقاط تفتيش على طول الطريق المؤدية إلى المكان المعلوم.. كيف إذن حصل هذا حتى يصير الكَيُّ آخر أدويتنا؟ ثم إن الحساب ليس مَعنِياًّ به البُسطاء وَحدَهم، وإنما من باب أولى، الرؤوس الكبيرة التي كانت وراء هذه القضية ووراء غيرها من كُبرَيَات المفاسد التي شوَّهت وتُشوِّه صورةَ المدينة منذ أعوام وما حكاية غابة "السلوقية" عنا ببعيدة وهي ما تزال تئن تحت لعاب الطامعين المتطاير عليها هذه الأيام!!! أين نحن إذن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[1]؟ (مع الاعتذار إلى كلمة "الشريف" أن نستعملها في وصف هؤلاء المُفسدين)
إننا لا ندافع عن السَّكنِ العشوائي ولا عن خرق القانون.. ولكننا ننبه إلى أننا أمام سلسلة من الأحداث كأنها إشاراتُ القدر تَتْرَى علينا لَعَلَّ ذا بَصيرَةٍ يَلتَقِطُها فيُصلِحَ من شأنه ويُواجِهَ قَدَراً بِقَدَر.. مواطنون يُهانون كأنَّما يُنْتَزَعُون انتزاعا من هروبهم الطويل من مواجهةٍ يُريدُها الظَّالِمونَ حَتْماً مَحْتوما.. يُنْتَزَعُون انتزاعا من صمتهم الثقيل تِلقَاءَ آلامٍ مُبَرِّحَةٍ وآمَالٍ ضَائِعةٍ يُريدُها المُستَكبِرونَ صَيْحَةً كأنَّها نفخةُ الصّور تقتلع الخضراء والصفراء... يُنْتَزَعون انتزاعا من تَوجُّسِهم الذي صار خوفا مَرَضِيًّا أمام كَيلِ الظَّالمينَ لِيَنْفَجِرُوا جَرَاءَةً على كُلِّ شيءٍ فَلاَ يَقِفَ في وجْهِ السَّيل إلاَّ طالبٌ للانجراف فيه والتَّضَعْضُع تحت زخَّاته.. يُنْتَزَعُون انتزاعا من إنسانيةٍ مَهيضَةٍ ما تزال بها بعض عروقٍ تنبِض ولكن بذكريات الإهانة والمقارنات الفظيعة بين قومٍ في النَّعيم يرفُلون وآخرين ترفسهم الأحذية العسكرية أوقات السَّحَر وتدوسُ على كَرَامَتِهم... يُنتَزَعُون انتزاعا من غَضِّهِمُ الطَّرفَ وصرفِهُمُ النَّظرَ طويلاً عن رُجولَتهم يتِمُّ إخصَاؤها صَبَاحاً ومَسَاءً من خِلالِ مُعاناتِهم اليوميَّة مع "الحُكْرَة الاجتماعية" التي أساسها عدمُ القدرةِ على الوفاء بالأساس المادي والأساس المعنوي لحياة اجتماعية سوية وطبيعية أمام ما تطلبه عيون زوجاتهم وأولادهم وبناتهم قبل ألسنتهم، وتنطِقُ به أحوالهم قبل أقوالِهم.. ويا ليتَ القومَ يكتَفُون بهذا وقد رَضِيَ به النَّاس على مَضَضِ وضُعف واضطرار.. بل يزيدون عليه الرفس والركل وتكسير السواعد والأذرع من خلال مقاربة عنفية إهانية إذلالية كأن الزمان هو الزمان والنفوس هي النفوس.. وكأنهم لا يرون الدنيا من حولهم تموج موجا وأن زمان الصمت قد ولّى.. وأن المغاربة إنما شماركوا في الربيع العربي بطريقتهم الخاصة والتي لم تكن في مستوى غيرهم من الشعوب العربية لأنهم وازنوا بفطرتهم حينا وبقلة الوعي فيهم حينا وبأملهم في تغيير هادئ حينا وبعَشَمِهم في الوعود التي تُعْطَى لهم من مصادرها أحيانا أخرى.. فكان أن استجابوا بمستوى مُقَدَّر لهبات الربيع العربي بحسب ما اقتضته موازناتهم فكان ما كان مما نعرفه جميعا.. فكأنني بهؤلاء القائمين على الشأن العام لا يكتفون إلا بتحطيم هذه الموازين متناسين المثل المغربي القديم القائل: "اللي كيفتش على الديب كيطلعلو"
هذا وقد رأينا في الأسبوع الماضي مفاسد هذه المقاربة حصارا وتجويعا وقطعا للإمدادات على المعطلين بالرباط، كيف دفعت ببعضنا إلى الانحراق فالموت ألما ويأسا ليذهب إلى الله شهيدا -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- يشكو ظلم العبيد وتواطؤ النخب وعجز الأحرار.. وكيف اضطرَّت آخرين منا إلى الدخول في صراع غير متكافئ تماما مع رجال الأمن مما أحرج كثيرا ممن أراد منا أن يمسك العصا من الوسط فلا يرتمي في لجة إجحاف المستضعفين بتركيزه على احترام القانون ولا بخرق القانون بحجة إنصاف الناس ومعانقة قضيتهم.. يوم أن انحرق حميد[2] قلت: ماذا وراءك يا يوما ظللت به حيًّا: مَضاءٌ؟ عَلاءٌ؟ أم يا تُرى قَرَفُ؟ مِنْ بعدِ فَدوى[3] حميدٌ هاج مُشتعِلاً والنَّاسُ تَنْظُرُ ما تأتي به الصُّحُفُ لَمَّا رأى خُبْزَهُ بالذُّلِّ مُنْغَمِساً صاحت به النَّارُ: خُبْزِي اللاَّمُ والألِفُ يبدو لي أن المسؤولين يبحثون عن تلك اللام والألف "بالشماعة والقنديل”.. وهي "لا" إن أتت فستكون شديدةً هذه المرة.. وإذا فاض بالناس الكيلُ فلن يقدر عليهم أحد... ها أنت ترى كيف أرسلوا برجال الأمن إلى المستشفى.. وقبل أسابيع رأينا كيف واجه الناس قوات الأمن في تازة.. فإذا كانت الهراوة -على ما يبدو- تفقد هيبتها في نفوس الناس.. فهل ي ------------------------------------------------------------------------ [1] رواه الإمام البخاري في كتاب الحدود - باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع. [2] حميد الذي أحرق نفسه احتجاجا على "الحكرة" التي تعرض لها وهو يبيع خبزه أمام إحدى المخبزات الراقية بعد هاحر وأخته من مدينته. [3] فدوى العروي التي أحرقت نفسها في "صفرو" احتجاجا على ظلم وحكرة مستطيرة ولم بنتبه لها أحد مع الأسف