الأحلام علامة مميزة، ونزعة إنسانية، تكبر معنا وتتكاثر مثلنا، بها نثبت وجودنا الخاص، وبها نبتكر صور الحياة والأمنيات والمشاريع التي نود تحقيقها ونأمل أن تُنفذ على أرض الواقع في يوم ما من أيام الله. والتمايز بين الناس هو في طبيعة الأحلام التي تدل إرادتها على صاحبها، وتجعلنا نتعرف عليه من خلالها أكثر مما نتعرف عليه من واقعه أحياناً، فنفهم وجوده في الحياة، والأهداف التي يحمل، والمسارات كما يرسمه، بأولوياتها أو ثانوياتها، وما سيكون عليه لو أن أموره سارت على النحو الذي يريده، حتى قيل: قل لي ما حلمك، أقل لك ما حالك. الفلاسفة والمنظرون والسياسيون يحلمون، وحلمهم، أفكار ونظريات، وقد كان أفلاطون يحلم بالوصول إلى مدينته الفاضلة، وكان غاندي يحلم بتحرير الهند دون اللجوء إلى العنف، وكان جيفارا يحلم ببناء جنة اشتراكية عالمية تسودها المساواة. والتجار والأثرياء يحلمون وحلمهم فردي أناني مبني على الربح والخسارة، فقد كان فورد منهم، يحلم بصناعة سيارة تكون في متناول الجميع لغزو الطبقة الفقيرة، وكان بيل غيتس (أحد مؤسسي شركة مايكروسوفت ورئيس مجلس إدارتها الحالي وكبير مصممي برمجياتها)، يحلم بأن يصبح مليونيرا عند بلوغه الثلاثين، لكنه أصبح مليارديراً عند الواحد والثلاثين.. والفقراء الجياع والعراة والحفاة يحلمون هم أيضا، وأحلامهم حاجة جماعية، وأحلامهم طعام وملابس وأحذية. فأين يقع حلم بوعزيزي من كل هذه الأحلام؟ طبعا كانت له أحلام كباقي الشباب الجامعي العاطل يتنهد بها في كل مناسبة، لكنه لم يتردد في ازدرائها، لأنها كانت مجرد حاجة معيشية متواضعة يستحيل الوصول إليها لدى فئة مجتمعية رغم الشهادات الجامعية العليا التي طالما روجت الجدات حولها أحلاما تؤكد أن: "الشهادات مفتاح الأحلام، وأن من يمسك شهادته بيده اليمنى، سيمسك والظيفة اللائقة بيده اليسرى". لكن للواقع مقولات أخرى أصدق أنباء من الأحلام، تتيسر لدى فئة أخرى بدون شهادات ولا كفاءات في نفس المجتمع، ما جعل بوعزيزي وأمثاله من ذوي الحاجات الملحة من أبناء هذا المجتمع، مستنفرين مستفزين سريعي الانفجار قبالة أي ضغط ولو كان نظرة شزر من شرطي، فما بالنا بالصفع والركل والرفس والإهانة التي يصير معها الفرد في حالة مستمرة من السخط والتمرد على الجهات التي يعتقد أنها مسؤولة عن إهانته وتضخيم احتياجاته بدلاً من تخفيفها، ويبقى المجتمع مهدداً بالعنف والإرهاب الذي لا ينمو ولا يجد قواعده وأرضه الخصبة إلا بين هؤلاء المساكين المغلولين الراسفين في القيود، الذين ليس لهم ما يخسرون عندما ينتفضون، سوى قيودهم كما يقال، بخلاف الفئات المحظوظة التي لا تجازف بمكتسباتها، ولا تساق سريعاً إلى ما هو عنيف أو متمرد أو مستنفر لأن لديها ما تخسره. الانتفاضة التي فاجأ الشعب التونسي بها العالم، والتي اندلعت على اثر حادث قد ينظر البعض إليه، وإلى المقدم عليه بشيء من عدم الاكتراث لأنه من الذين ليس لهم يخسرون، رغم أنه حدث ذو مغزى كبير، لأن الشاب بوعزيزي الذي أهينت كرامته بمنعه من العمل على عربة خضر متواضعة في مدينة بوزيد، والذي تلقى صفعه أمام الناس من قبل عناصر أمن النظام، لم يرضى بالاستسلام للحلم والبقاء محصوراً في أفق حاجاته اليومية، التي لا تفتح على التحرر والانعتاق، وأبى إلا أن يقدم تضحية تُعرف بحال مُقت وازدراء لأحلام صارت أقرب إلى الوهم، مستحيلة التحقق، يشعر معها المرء أن وضعه الحياتي المعاش مشوش وقلق وناقص وغير مكتمل، بل وملغاً بالمرة، من دون تلك الأحلام سبب إنسانية البشر..كما يقول جيل دولوز" نحن نحتفظ بقدرتنا على أن نحلم لنحتفظ بقدرتنا على أن نكون إنساناً كي لا ننتهي". وهذا لا يعني بالمرة أن التونسين باهتمامهم الكبير بالأمور الحياتية الاقتصادية المباشرة، المتمثلة في الأسعار والأجور وتوازنها أو اختلالها، غير معنيين ولا مكترثين بالأمور والقضايا السياسية. فلم تكن الضغوط الاقتصادية وحدها وراء انتحار الشاب التونسي الجامعي/شرارة الانتفاضة التي انطلقت من "سيدي بوزيد"، بل كانت هناك إلى جانب الخبز كحافز أساسي، أحلام واهتمامات ومطالب أخرى سياسية حطمت حواجز الخوف والصمت، وفتحت الطريق أمام تحطيم ديكتاتورية الطغاة. فالشعوب تحتاج إلى الحرية والكرامة وليس فقط إلى أن تملأ بطونها، ولو كان الأمر كذلك، لتوقفت الانتفاضة فور تخفيضات الأسعار، التي استُرضِيَ بها الشارع، ولخففت التنفيسات، من غضب الجماهير التي قررت أن تشبّ عن كل طوق مهما كانت التنازلات، لأنها لا تعيش لتأكل كما قال السيد المسيح: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. لكنها الكأس فاضت، وطفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، ولم يبقى هناك مجال للمزيد من القهر والخوف الذي لم يعد يخيف أحدا، فانتفض الإنسان التونسي المتشوق للحرية والمستقبل، انتفض ليس من أجل تحسين سعر الهريسة والخبز الذي أذلوه به، بل انتفض لكسر القيود التي غلت الأيد والأعناق، ولانتزاع قيمة الإنسان التي مرغت في وحل الذل والإهانة، لأنه إنسان عاشق للحرية، ويحلم بالتحرر مند عقود كما قال جيل دولوز" أن الناس تحلم؛ لأنها تريد مغادرة سجن ما. تحلم بالأمن لتغادر سجن الخوف. تحلم بالحرية لتغادر سجن الاستبداد. تحلم بالحب لتغادر سجن الوحدة. تحلم بالإنجاز لتغادر سجن العجز. تحلم بأن تكون، لتغادر سجن أن لا تكون. تحلم بما لا يكون، لتغادر سجن ما هم كائنون فيه". إذن يمكننا القول أن الخبز و البطالة وارتفاع الأسعار وإحباط الجيل الجديد، حوافز كانت من أساسيات انتفاضة الشعب التونسي، لكنها لم تكن العامل الأهم فيها وفي إسقاط نظام بن علي، فنفس الظروف عاشتها تونس أثناء حكم الحبيب بورقيبة ولم تسقطه رغم احتجاجات التونسيين المتواصلة ضد ديكتاتورية نظام الحزب الواحد والشمولي، منذ استقلالها عام 1956 الذي لم تعرف خلاله سوى حاكمين، بورقيبة الذي قاد البلاد للاستقلال فقدرت له ذلك. والثاني بن علي الذي غدر بولي نعمته واستولى على الحكم سنة1987 واستبد بالتونسيين وأهانهم وجرح مشاعرهم ودمر روح المقاومة والأنفة لديهم بحرمانهم، على مدى عقود، من حرية الرأي وحق التعبير والعيش الكريم وإفراغ بلادهم من الأحزاب، والعمل النقابي، وتغييب قوى المجتمع المدني وصنّاع الرأي، بالبطش والتخريب، والإفساد وشراء الذمم، حتى باتوا مضرب المثل في الذل والخنوع والسكوت على كل ما يلحق بهم، فلا ينزلون إلى الشارع إلاّ للتأييد، ورفع صور الرئيس الطاغية الذي لم يكن يتوقع قط أن تأتي الثورة من شرارة تطايرت من بدن شاب عاطل تمرد على الظلم، والخوف، والشعور بالضعف، وثار على الخنوع والذل والفردية العاجزة المنكسرة، لتنفجر كالنار التي طال احتباسها في صدور جماهير ما عادت تطيق العيش في بلد تنهب خيراته، وتبدد ثرواته، وتندلع كالبركان في المدن، والقرى، وتتدفق في العاصمة وبالضبط في شارع بورقيبة وكأن لها موعدا مع العلامة ابن خلدون -الذي يعتّز التونسيون بانتسابه إليهم- لكتبت معه فصلاً جديدا في كتابه المقدمة التي لم يفهم منه طغاة هذا الزمان وكل زمان بأن الشعوب هي من يصنع التاريخ إن هي أرادت، وأنها يمكن أن تصمت طويلاً، حتى ليبدو أنها خانعة تماما، وما عادت قادرة على رفع صوتها محتجة على الأجهزة الوحشية وجرائمها فتنبعث كطائر الفنيق من رماده إيذانا بانتهاء دولة الفرد، وأجهزة القمع، والدولة البوليسيّة، والبطانة الفاسدة النهّابة.. فكل شيء يمكن التنبؤ به، الأحوال الجوية، البورصات المالية، وحتى الحظ والسعد يمكن التنبؤ بهما بواسطة "الكاركة والفال"، لكن من الصعب إحصاء أنفاس الناس، والتحكم في أفكارهم أو التحكم في ردود أفعالهم عندما يفقدون الحرية والكرامة وتستحيل لقمة العيش، ومنعم من الانتفاض. إنها طبيعة الثورات التي من الممكن أن يعرف كل العلماء والباحثين أسبابها ودوافعها ولكن لا يعلم أحد، أيا كان، ما هو الشيء الذي سيحُدث الثورة ويشعل فتيلها، لأنها عملية اجتماعية وسياسية تتكون ببطء وعلى نحو معقد وتختزن مفاعليها في داخلها، خصوصا، في ظل تدجين النظام للناس وقهرهم، وتركيعهم، بالخوف والقمع ولقمة الخبز والعمل بمنطق الديكتاتورية البائدة(جوع كلبك يتبعك). فلا أحد يمكن أن يتنبأ بانتفاض الناس وثورتهم التي قد تصنعها صيحة غضب واحدة يطلقها عاطل مقهور، أو متمرد غاضب في شارع عمومي، فما بالنا بجامعي عاطل سُلب رزقه، وطُعن في كرامته، ولم يجد سوى جسده ليحوله إلى عريضة ملتهبة للاحتجاج على الأوضاع لتغييرها. ربما يقول قائل إنه احتجاج باهظ الكلفة وأفتى بعضهم بتحريمه، بينما حقيقة الأمر أنه حلم في التغيير الذي لا يحصل من دون كلفة..إذ لا تغيير بالمناشدة والبيان والمقال والموعظة الأخلاقية، بل التغيير لا يحدث إلا بالالتصاق بهموم الناس ومطالبهم واحتياجاتهم المعيشية، فلكل تغيير في تاريخ البشرية تكاليفه، ووحدها المجتمعات المستعدة لتسديد فواتير التغيير، هي المؤهلة للخروج من ركودها وسباتها، أما الاكتفاء بالجلوس على مقاعد الوعظ والإرشاد، فتلكم أقصر الطرق للخراب.. وإذا أرد الوعاظ والمصلحون أن يرسخوا الاستقرار الاجتماعي، ويحولوا دون وصول الناس إلى حالة الإحباط وقلة الحيلة، فعليهم بتحفيز مجتمعاتهم بشكل دائم واستنهاض همم الناس، ليرتفع مستوى تطلعاتهم وطموحاتهم،-كما تعمل الأنظمة السياسية ودوائر القرار في المجتمعات المتقدمة- حتى ينشغل المجتمع عن إحراق الأبدان، بما هو أفضل وينطلق الناس في آفاق المعرفة والإبداع على كل صعيد. وسواء اختلفنا أو اتفقنا على صحة الطريقة التي اختارها بوعزيزي وغيره للتعبير عن رفضه للواقع، واحتجاجه علي أوضاع معيشية تعكس حال الكثيرين من أمثاله من الشباب التونسي والكثير من الشباب العاطل في كثير من أجزاء الوطن المغاربي والعربي، فإن التاريخ لن ينسى هذا الشاب الذي هو شرارة وصحوة للشعوب التي تحملت وصبرت وعايشت الظلم والطغيان، والتي كنا إلى قبل أيام فقدنا الأمل في انتفاضها، ظننا منا أنها شعوب نائمة غافلة، أو مترهلة وميتة.. رحم الله البوعزيزي الذي ٍقدم الدليل الحي على ما قاله أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي*** ولا بد للقيد أن ينكسر