في ذكرى ميلاد خير البرية صلى الله عليه وسلم، ربيع النور والسرور، تتوهج الأشواق إلى حضرته، ومعرفة بعض حياته وخصوصياته الربانية، وعناية الله به، قبل الخلق و بعده وأثناءه، لتكون المعرفة شاملة، وترتفع الجهالة. بجهل مقام هذا النبي العظيم، وغياب بعض العلم به عن التداول بين الناس، تم الرفع من سقف الجهالة، والتجرؤ على أقرب الناس إليه، أمه وأبيه ! وهذا ما لا يقبله محب ولا عاقل .. أم المصطفى صلى الله عليه وسلم هي سيدة من سيدات العرب، فائقة الجمال، تقرض الشعر، وتنطق بالحكمة، تربت وعاشت في أسرة وجيهة ببني سعد (أخوال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم). يحمل اسمها الشريف رضي الله عنها، معنى بالغ الأهمية، آمنة، رمزا للأمان، وملاذا للضمان، كيف لا وهي التي حملت الأمان الأخير للعالم، ورسول رب العالمين، فكل ذلك من ترتيبات القدر، إذ اختياراته غير عبثية، فكانت الأم رمز الأمان، والأب عبد الله رضي الله عنه رمز العبادة لله، فكل تلك المعاني تجلت في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو الأمان للبشرية جمعاء، وهو القدوة في العبادة لله. يجهل الناس كثيرا حقيقة أبوي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يعرفون قدرهما، ودورهما الذي هيأهما الله خصيصا له، حتى تجرأ كثير من الوقحين عليهما، وعلى مقامهما ومصيرهما عند الله، والقول بأنهما في النار دون حياء أو خجل، وهذا من الجهل، وسوء الأدب، لا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مع من كانا سبباً في وجوده. هذه الأم العظيمة، هيأها الله تعلى لهذه المهمة، فخطبها عبد المطلب قدس الله روحه، لابنه عبد الله رضي الله عنه، وتزوجت به، وهو ابن سيد من سادات مكة، ولا يجرؤ على خِطبة بنات الأسياد، إلا الأسياد ! فتزوجته وهي الزوجة الوحيدة له، لم يتزوج لا قبلها ولا بعدها، ولم تتزوج هي غيره، إذ كان زواجهما مخصصا لإنجاب خير الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لم ينجبا غيره، فمات أبوه بعد الحمل، وتوفيت الأم بعد ست سنوات من ولادة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تودعه وداع محب، وتبشره بأنه نبي آخر الزمن، حتى قالت: بارَكَ فيك اللّهُ من غلامٍ ** يا ابن الذي في حومةِ الحمامِ نَجا بعونِ الملكِ العلّامِ ** فودي غداةَ الضربِ بالسهامِ بِمائهِ مِن إبلٍ سوام ** إِن صحّ ما أبصرت في المنامِ فَأَنتَ مبعوثٌ إِلى الأنامِ ** تبعثُ في الحلّ وفي الحرامِ تبعثُ بِالتوحيدِ والإسلامِ ** دين أبيكِ البرّ إبراهامِ فَاللَّه ينهاكَ عن الأصنامِ ** أن لا تُواليها مع الأقوامِ وهي تودعه ببكاء ممتزج بالشعر، في الطريق بعد الرجوع من زيارة لأخواله، فتدفن على عينه، لتبقى تلك الصورة حاضرة بين عينيه طول عمره الشريف، يحن إليها ما بين فينة وأخرى، حتى كان يلقب السيدة فاطمة بنت أسد بأمي بعد أمي ! ويحن إلى أمه وذكراها، وأخبارها وشؤونها، وطفولته معها .. يوم فتح مكة؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسير نحو مكة وهو يترأس 100.000 صحابي، لما وصل منطقة الأبواء، استأذن الله سبحانه في زيارة قبر أمه، وفاء لها، وصلة للرحم، فأذن الله له بذلك، فأوقف الجيش على عظمته، ونزل إلى قبر أمه زائرا، وظل لحظات عندها، وهو يبكي بكاء شديدا حتى اخضلت لحيته، وحن الصحابة لحاله، وبكوا لبكائه، إذ علمهم قيمة الوفاء للوالدين، وعظمة الأم في ديننا، إذ من الأم تأتي الأمة، تربية وتأديبا وتخليقا .. وفي نفس السفر إلى مكة يوم الفتح، التقى بالسيدة حليمة رضي الله عنها أمه من الرضاعة، فجالسها طويلا وحادثها وضحكا معا، وفاء ومحبة ولطفا، والصحابة ينظرون، مستبصرين رأفته ورحمته صلى الله عليه وآله وسلم. في هذه الحادثة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه استأذن ربه في الزيارة فأذن له، واستأذنه في الاستغفار لها فلم يأذن، وهذه بشارة من الحق سبحانه لنبيه بأن أمه كانت من الصالحات، ولا ذنب لها عنده كي يستغفر لها، ولكن المتطرفين فكريا فهموا أنها من أهل النار لذلك لم يأذن له في الاستغفار لها، وهذا فهم بعيد كل البعد إذا قرأنا أمنا آمنة رضي الله عنها في سياقها، وتعرفنا عليها أكثر .. زواج سيدنا عبد الله بأمنا آمنة، لم يكن عبثا، وإنما كان تدبير إله عليم حكيم، رتب له أسبابه وأزال موانعه، إذ يوم نظر الحبر اليهودي من أهل الزبور -كما روى ابن سعد- في وجه عبد المطلب، قال له إذا التقى دمكم بدم بني عبد مناف، كانت فيكم نبوة آخر الزمن، فتزوج منهم عبد المطلب السيدة هالة، وأنجبت له سيدنا حمزة بن عبد المطلب، وزوّج ابنه عبد الله بأمنا آمنة، فأنجبت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويوم وضعته طفلا بل سراجا منيرا، قالت بأنها رأت نورا خرج منها أضاءت له قصور الشام، فكانت وعاء لهذا النور، ويوم ذكر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قال: "كذا رأت أمي، وهكذا أمهات الأنبياء يرين". ذكرى المولد النبوي الشريف، هي ذكرى عظيمة للوقوف مع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وتأمل حياته، وتجديد البحث في ذاته وصفاته وسيرته وشمائله وكل ما اتصل به، وهذه وقفة متواضعة مع أمنا آمنة الأمان والضمان، رضي الله عنها وأرضاها وخلد في الصالحات ذكرها.