بقلم : فيصل البقالي أشرنا في المقالة السابقة إلى ما أسميناه "مأزق المسلّمات ونوافِل القول" وهو لَعَمْري آفةٌ تطرَأُ على الأفكار فتُفقِدُها جِدَّتَها ومن ثَمَّ فاعليَّتَها وقُدرَتَها على التّأثير..ولعلّ من اللائقِ بَسْطُ هذا الموضوع في هذه المقالة حتّى نَمضِيَ معاً على سَنَن.. فليس موضوعُنا بِمَنْآىً عن هذه الآفةِ بلْ لَقَدْ تَهَدَّلَ منْ كثرَةِ ما كُتِبَ فيه وتُحُدِّثَ عنه حتى صار الغائبَ الحاضِرَ في غيابِه عن الواقعِ مُمارسةً وإنجازا..وحضورِه في أدبيّات المُتأدِّبين بلاغةً ومجازاً..وما أن يُطْرَقَ هذا الموضوعُ حتّى يكادَ المُتلقِّي يُسابِق المُلقي إلى بَنَاتِ أفكارٍ قيلَتْ وأُعيدَت ثمَّ كُرِّرَتْ حتَّى يُسرِعَ إليه الضَّجَر فيَملأَ عليه سمعَه وبصرَه! وما زالت هذه الآفةُ محذورةً من الخاصَّة، مَمْجوجَةً من العامَّة إلى الحدِّ الذي حذا ببديع الزّمان الهَمَذاني أن يُدرِجَها في مَقامَتِه الدّينارِية الشَّهيرةِ على أنَّها سُبّةٌ من السُّبَّات الّتي تَنَابَزَ أبو الفتح الإسكندري وصاحِبَه بِها!
إنَّ الإشكالات الَّتي تنطَرِحُ أمامَنا ونحنُ نُقارِبُ سُنَنَ التَّغيير في النَّفس والمُجتمع لا تَتَمثَّلُ فقط فيما ذكرناه مِن قتلٍ لهذا الموضوع كتابةً وقولاً، بل أيضا في تعقيده وتركيبه.. فموضوعُنا لا يطرح علينا إشكالياتٍ سهلةً حتّى نكتَفِيَ إذْ أعْجَزَنا الجديدُ أنْ نُّورِدَ القديم.. بل هُوَ يطرَحُ علينَا إشكاليّاتٍ مُعَقَّدَةً.. لأنه من جهةٍ يَتَعَرَّضُ لعالَمٍ غايةٍ في النِّسبيَّة، ضاربٍ في التَّركيب والتَّعقيد، مُتَمَيِّزٍ أساساً باللاَّنهائيَّة في تَمَظْهُراتِه وتَشَكُّلاتِه، وفي عناصِرِه والعَلاقاتِ الَّتي تنشَأُ فيه بالتَّبَع.. فهُوَ يتَّخِذُ منَ الظواهرِ الاجتماعيَّة أو من بعضها موضوعاً له.. بلْ هُوَ يسْعَى إلَى تَمَثُّل صيغَةٍ مَّا، قانونٍ مَّا، نظامٍ مَّا يَتَوسَّلُ به إلى السَّيطرَةِ على هذه الظَّواهرِ الاجتماعيَّة بِهَدَفِ تغييرِهَا.. كما أنَّه يدخُل في صُلبِ هذه الظَّواهرِ باحِثاً عن طبيعَةِ العلاقاتِ فيما بينها، ويزْعُم العُنوانُ المَطروحُ علينَا (وهو زعمٌ في مَحَلِّه) أنَّ ثَمَّةَ سَبَبِيَّةٌ بينَ عالَمَيْها الأكْبَرينِ (أي عالمي هذه الظواهر الاجتماعية): العالَمُ الجُوَّانِيُّ وهو النفس، و العالَمُ البَرَّانِيُّ وهو المُجتَمَعُ.. ثُمَّ إنَّ المَأزِقَ لَيَصِلُ غايتَه مَعَ كلِمَةِ "سُنَن" لأنَّها تعني الضّبْطَ والإحكامَ كما تَعني المنهَج والوسيلة.. والحالُ أنَّ مجالَ اشتِغالِنا هَهُنا مُتَمَنِّعٌ جامِحٌ مُتَأبٍّ علَى الضَّبْطِ والإحكام..يَرُوغُ فَيَتَفَلَّت، فلا تَكادُ تنفَعُ معهُ حيلةٌ ولا وسيلة.. هذا من جهة.. ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ هذا المجالَ وَثيقُ الصِّلةِ بعِلمٍ رَصينٍ مُنضَبِطٍ بِشَرْطِ العِلْمِيَّةِ، مُسْتَوْفٍ لشَرطِ الاستِقلاليَّة، مُنْسَجِمٍ في بُناهُ وقابلٍ للكتابَةِ المَنطِقِيَّة، ومُستَجيبٍ لرُكْنِ المَوضوعِيَّة وهوَ عِلمُ الاجتِماعِ..فَهُوَ يبحَثُ في هذا الَّذي نَسألُ عنهُ اليوم: عن العلاقات الاجتماعية وكيف تَنْشَأُ.. وعنِ التَّغييرِ الاجتماعيّ.. وعن جدليَّة الفَردِ والجَمَاعَةِ.. ويَسْتَشْرِفُ السُّنَنَ الَّتي نَتَسَاءَلُ عَنْهَا فيجعَلُها الغَايةَ الَّتي يصْبُو إليْها.. يُقَارِبُهَا ولا يكادُ يُمْسِكُهَا... فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَكُونُ حالُنا وكيفَ تبدُو صورَتُنا ونحنُ نُقارِبُ هَذَا الأمرَ بِشَطَحَاتِ العقولِ الَّتي قَلَّمَا تَأتينَا بالرَّوْسَمِ الَّذي تَتَحَلَّبُ لَهُ أفْواهُنَا؟
فَلَيسَ الشَّأنُ مَاذَا نَقْرَأ؟ وَإنَّمَا الشَّأنُ كيفَ نَقْرَأ؟ أفَلاَ تَرَى النَّاسَ يُرَدِّدونَ في الْمَساجِدِ صُبْحاً وعَشِيًّا آياتِ القُرآنِ طافِحَةً بإنكارِ الْبَغْيِ وعَدَمِ الرُّكونِ إلَى الظُّلمِ والنُّهوضِ بِقَولِ الحَقِّ وَلَوْ عَلَى النَّفْس؟ فَهَلْ يَجِدُ كُلُّ ذلِكَ أوْ بَعضُهُ إلَى حَيَاتِهِم سَبيلا؟ ذلكَ أنَّ القابِلَ لَيْسَ مَعَ الوَارِدِ في وِفَاق..وَلَئِنْ كانَ الوارِدُ هَهُنا بِمُقْتَضَى عَقيدَتِنَا لا غُبارَ عَليه، فَلاَ أقَّلَّ مِنْ أنَّ القابِلَ عليهِ الغُبارُ كُلُّه. فَهَلْ نَكْتَفي ونحنُ نُريدُ أن نُّغَيِّرَ ما بِنا بِتِرْدَادِ ما هُوَ دونَ الذِّكرِ طامِعينَ في أنْ نَّجِدَ لَهُ في حياتِنَا أثراً ذا بالٍ ونحنُ لَمْ نُحَرِّرْ بَعْدُ مَوْضِعَ الخَلَلِ في قابِلِيَّتِنَا لَه؟ ولَمْ نُفْلِتْ مِنَ الْمَأزِقِ الَّذي أشَرْنَا إليه بِمَا يُسَاعِدُنَا عَلَى حُسنِ الْفَهْمِ عَنهُ، ومِنْ ثَمَّ حُسنِ التَّفاعُلِ مَعَه، وترجَمةِ ذلكَ كُلِّه إلى سُلوكٍ وعَمَل؟
ومنْ نوافِلِ هَذاَ الْقَولِ كذلك، ما يَذهَبُ إليهِ آخَرونَ وهُوَ ما صَارَ يُتَدَاوَلُ بِكَثْرَةٍ في السِّنينِ الأخيرَةِ مِنْ أدَبِيَّاتٍ فيمَا يُسَمَّى بالتَّنمِيَةِ البَشَرِيَّة يَزعُم فيهَا أصحابُها أنَّهُم يُخرِجونَ مِنَ الْفَأرِ فيلاً، ويَنفُخونَ في الجَمادِ روحاً، ويُشْعِلُونَ في الْغَبَاوَةِ ذَكَاءً، مُسْتَخِفِّينَ عُقولَ مَنْ سَايَرَهُم في حُلمِهِم بلْ وَهْمِهِم.. فَصِرْنَا إلَى سُلوكٍ هُوَ بالموضَة أشْبَهُ مِنهُ بسُلوكِ طُلاَّبِ الْحِكْمَة والكَرَامَة، خُصوصا وَأنَّ المَجَالَ اختَلَطَ فيهِ الأصيلُ بالدَّخيل، وَاشتَبَهَتْ فيهِ الدَّعوَةُ بالدِّعايَةِ، والتَّأطيرُ بالتَّسويق.. فَصِرْنَا إلَى زَلَقٍ لاً يَأمَنُ المرءُ خَطْوَهُ عَلَيه، وَلاَ يَنْشَطُ عَزمُه للدُّخولِ إلَيْه. غَيْرَ أنَّهُ وَللإنْصَافِ لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِثناءِ قَومٍ لَهُمْ باعُهُم في الْبَابِ مِمَّنْ حازُوا على دقائق من العِلم المَكين، ورَقائِقَ من الفهمِ الرَّصين، وهؤلاء في كتاباتهم وحواراتهم وندواتهم ودوراتهم التدريبية لا يَمَلُّونَ من التأكيد على أن التغيير في النفوس بَلْهَ الجماعاتِ فالمُجتَمَعات، ليس تِقنِيَّاتٍ يُؤخَذُ بِها، ولا خُطُواتٍ تُوَالى وتُتَابَعُ في عَمَلِيَّاتٍ تَكادُ أنْ تَكونَ ميكانيكية، بَلْ هِيَ إشْراقاتٌ في العقول تَتَوَقَّدُ، وسَرَائِرُ في بَوَاطِن النُّفوسِ تُتَعَهَّدُ..وأنَّ ما مِن برنامج أو مُخطَّطٍ أو تِقنيّة مهما بلغنا فيها إحاطةً في التَّنظيرِ، وبالَغْنَا فيها إتقاناً في التَّطْبيقِ، فَهِيَ لَنْ تَكونَ بِذاتِ جَدْوَى مِنْ غَيرِ عَمَلٍ عَلَى الْبَواطِنِ أيِ النُّفوسِ.. فالإنْسَانُ بِتَعبيرِ الدّكتورِ طَهَ عبدُ الرّحْمَن آيَةٌ وليسَ آلَة.. يُحْكَى أنَّ الإمامَ حُجَّةَ الإسْلامِ أبا حامِدٍ الغزاليِّ لَمَّا خَرَجَ مِن بغداد هائماً، طالِباً اليقينَ لِبَالِه والطُّمأنينةَ لِحالِه، التقى راعِياً صالِحاً من أهْلِ المعرفة، فاسْتَنْصَحَه الإمامُ أبو حامِد، فكان مِمَّا نَصَحَهُ بِه أنْ نَبَّهَهُ إلَى اسْتِحالَةِ الفِقْهِ عَنِ اللهِ في قِراءَةِ الْقُرآنِ بِقَلبٍ غيرِ سَليم.. وَضَرَبَ لَهُ مَثَلاً بِالحَليبِ يُسْكَبُ في إنَاءٍ غيرِ نظيف..هل يُسْتَسَاغ؟ ألا فابْدَأ بالإنَاءِ فَنَظِّفْهُ ثُمَّ انْتَخِبْ لِشَرَابِكَ فيهِ بَعْدَ ذلِكَ مَا تَشَاء..
دَعونَا إذن نُحاوِلُ ونحنُ نُقارِبُ في هذه المقالات قَضِيَّة التَّغييرِ ألاَّ نَسقُطَ في آفَةِ الكَلاَمِ المُعَادِ حَتَّى لاَ نَبُوءَ بِسُبَّةِ بديع الزَّمان الهمذاني تلك.. وأنْ نَجْتَهِدَ رَأياً رُبَّمَا اعْتَوَرَهُ النَّقْصُ مِنْ جَوَانِبِه ولَكِنْ حَسْبُنَا فيه أصَالَتُهُ عِنْدَنَا وصُدُورُنَا بِهِ عَنِ احْتِرَاقٍ بِفِكْرَتِه لاَزَمَنَا وَقْتاً حَاوَلْنَا فيه أنْ نَّتَحَلَّبَ ضِرْعاً أعْجَفاً آمِلينَ أن نَّفوزَ مِنهُ بِقَطرَةٍ مَّا تَزَالُ مُحْتَفِظَةً برُوَائها وَطَرَاوَتِها.. وإنَّ قطرَةً منْ هذَا القبيل بالقياس إلى مأزقنا السَّالف الذكر لشيءٌ عظيم بلا رَيْب.. فإمَّا إضافةٌ مَّقبولةُ وإمَّا فَضْلَةٌ مَّتروكَة ولكننا نكونُ قد تَخَلَّصْنَا مِن لأوائِها في صُدورِنا وطَرَحْنَاهَا عَنَّا إلى غيرها.
فماذا نقصِدُ بالتغيير ونحنُ نَتَحَدَّثُ عَنِ التَّغيير في النَّفسِ والمُجتمع؟ وما هي أنواع التغيير التي نريد بها النفس؟ هل نقصد بالتغيير في النفس تغيير السلوكيات والعوائد؟ أم تغيير التصورات والعقائد؟ أم هل هو تغيير نفسي تربوي أم هو تغيير فكري تأطيري؟ أم هو كل ذلك؟.. وما هي أنواع التغيير التي نريد بها المجتمع؟ وهل المقصود بالتغيير في المجتمع التغيير الثقافي؟ أم التغيير السياسي؟ أم هو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي أم هو الإصلاح الديني العقدي أم كل ذلك معا؟..ثم ما هي العلاقة بين طرفي التغيير اللذين يبرزهما في العنوان؟ وهل ثمة علاقة أصلا؟ فإن كانت فكيف تنبني هذه العلاقة؟