شرعت السنة الميلادية الجارية في لملمة أمتعتها وحزم حقائبها استعدادا لسحب ذيلها الأخير والجنوح نحو المغيب . وبدأت نسائم السنة الجديدة تهب علينا في وقت يساورنا فيه إحساس بأنها ستذرع طريق الزمن مهرولة نحو الأمام وستمضي كأنها ساعة من نهار مقتدية في ذلك بخطى سابقاتها ، لكن من غير أن تكشف لنا عن سرائرها أو تبوح لنا بمكنوناتها . ومع انصرام عام من عمرنا نستسلم ولو للحظات لخواطرنا فنتلفت إلى الوراء نراجع ما دون في سجل السنة المنقضية ونستحضر بل ونتدبر ما انسلخ خلالها من وقائع ومواقف ،فتكر الأيام عائدة في مضمار مخيلتنا وتثار في نفوسنا الأفكار حول كل ما يتبدى لنا من أحداث وذكريات ، ونتذكر في خضم ذلك ما طواه بساط تلك السنة من خير وشر وحلو ومر وفرح وترح ونجاح وإخفاق ودموع وابتسامات وصفو وكدر . ومع هبوب نسمات العام الميلادي الجديد صار من المعتاد في السنوات الأخيرة أن يتسابق الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتبادل رسائل التهاني وطرح تحية " كل عام وأنتم بخير " التي لا تتوقف الهواتف عن نقلها وتلقيها . وبموازاة ذلك تعيش بعض المدن السياحية المغربية على إيقاع أجواء احتفالية تواكبها إجراءات وتعزيزات أمنية مشددة كما هو الحال بالنسبة لمدينة طنجة التي يتقاطر عليها السياح والزوار للاحتفال بهذه المناسبة ، حيث تشهد بعض شوارعها حركة غير اعتيادية ليلة رأس السنة ، حركة لا تسلم في بعض الأحيان من عربدة السكارى و نزق بائعات الهوى وطيش السائقين . أما المراقص والملاهي والشقق المفروشة فيتضاعف عدد مرتاديها في المدينة خلال تلك الليلة شأنها شأن الفنادق الفخمة التي ترتفع فيها نسبة حجوزات الغرف والأجنحة احتفاء بالمناسبة ، إذ تتنافس الفنادق المصنفة في استقدام الفنانين في تلك الليلة و تتبارى في تنظيم السهرات الغنائية وتقديم ما لذ وطاب من الأطعمة والمشروبات الكحولية حيث لا يكاد يعلن داخلها عن ساعة الصفر و انطلاقة قطار السنة الجديدة حتى يعمها الرقص والسمر والضم والعناق وأشياء أخرى . كما تشهد المراكز التجارية و المخابز ومحلات بيع الحلويات استعدادا لنفس المناسبة إقبالا كبيرا من طرف شرائح مختلفة من المواطنين الذين يتزاحمون على عتبة أبوابها لاقتناء عدة الاحتفال ،بل حتى بعض الفقراء الذين يعانون من الفاقة و قلة ذات اليد لا يفوتون بدورهم فرصة الاحتفال بهذه المناسبة فتجدهم عشية رأس السنة يعدون لها ما استطاعوا من حلويات وفواكه وإن كانوا لا يقتنون على غرار الفئات الميسورة شجيرة عيد الميلاد الصنوبرية التي تؤثث المناسبة ولا ينتظرون في المقابل أن يطرق " بابانويل " باب مسكنهم ليقدم الهدايا لأطفالهم ، غير أنهم لا يتنازلون عن شراء كعكة " كريسماس" ، فتراهم في ليلة رأس السنة يلتئمون في منازلهم أمام القنوات الفضائية التي تجتهد في إرضاء رغبات مشاهديها عبر تقديم باقة من الأغاني التي تهز الأرداف والصدور والخصور . في حين أن شريحة من الناس تربأ بنفسها عن كل ذلك في تلك الليلة فتهرع إلى مضاجعها وتطبق أجفانها في الموعد المعهود غير آبهة ولا حافلة بطقوس المناسبة التي ترى أنها غير معنية بها. ولا شك أنه بمناسبة حلول العام الجديد يرسم الناس في مخيلاتهم التطلعات و تداعب نفوسهم أحلام وآمال تتشابه حينا وتختلف حينا آخر. فالذي أضنته حياة العطالة الرتيبة أصبح يتطلع نحو اليوم الذي يظفر فيه بوظيفة أو عمل يقيه وجعها وينتشله من مستنقع مرارتها ، والذي ضاق ذرعا بعمله أو وظيفته صار يملأه الرجاء في أن يستحث عمره الخطى نحو اليوم الذي يحال فيه على المعاش ، والذي ثقلت عليه ظروفه المادية و أشقاه غلاء المعيشة أصبح كل همه أن تنخفض أسعار القفة وتنتفي أسباب العسر، والذي يعيش في شقاء وبلاء صارت أمانيه محصورة في يوم يتلمس فيه الخلاص مما فيه ويذوق نكهة الحياة ، والذي يعيش قرير النفس في سعة ودعة صار مبتغاه دوام النعمة عليه ، والذي ثقلت عليه وطأة المرض بات يمني نفسه في أن يلبسه الله ثوب الصحة والعافية ، و الذي يعاني كرب النفس وانقباض الفؤاد أصبح يتوق إلى يوم تتبدل فيه ظروفه وأحواله و ينزاح عن عاتقه الحمل الذي أضناه ، والذي عانى من مكر الناس وخذلان الأهل وتلون الصحاب أصبح يتمنى أن تسقط الأقنعة عن الوجوه وتصفو القلوب و النفوس ، والذي يحمل هموم أمته صار يتوق نحو استتباب الاستقرار فيها وعودة بشائر الأمن والسلام إلى دولها المتشظية التي عمها البلاء والأرزاء ... هكذا تتعدد أماني الناس وانتظاراتهم وهم على عتبة العام الجديد ، غير أن الإحساس الذي ينتاب الجميع هو أن العام المقبل لن يستقر بطبيعة الحال على حال واحدة ما دام الزمن مجبولا على التغير وسيحمل في سجله الكثير مما يغيب اليوم عن توقعاتنا وإدراكنا . فلنتفاءل بما هو قادم ولنفوض أمرنا إلى المدبر الحكيم ولنضرع إليه أن يكون القادم مترعا بالسعادة والأفراح خاليا من الأوجاع والأتراح ، تصافح عيوننا خلاله كل ما هو جميل ويطرق أسماعنا كل ما هو سار. وكل عام وأنتم بخير.