طنجة مدينة أصبحت تولد كل يوم و تتفرع وتتمطى في كل اتجاه ، تمد جذورها كشجرة فوق الأرض في كل ناحية ...الأبنية والجدران في رحابها تتناسل و تتشامخ رافعة هاماتها نحو عنان السماء في عتو وخيلاء . أطراف المدينة ما عتمت تقضم تارة تحت جنح الليل خلسة وطورا تتآكل في واضحة النهار ... يقال عن طنجة أنها مدينة كبرى، نعم لعمري إنها كذلك ، فالمدينة تبدو كبرى بمشاريعها وديناميتها التنموية ، بمكارم أهلها وأمجادها ، بثرائها وفقرها ، بوداعتها وصفوها ، بزحامها وزعيقها ، بعمرانها وأضوائها ،بمقاهيها ومصانعها ، بملاهيها ومطاعمها ، بمراقصها وخماراتها ، بمتسوليها ومشرديها ، ببائعيها المتجولين وبعاطليها .. لكن في المقابل تبدو المدينة صغرى في عيون الكثير ممن يعيشون فيها و الذين تطرق مسامعهم كل يوم حكايات حزينة عن بؤس مرافقها الصحية وعن قلة وسائل نقلها العمومية ، و نقص في مواقف سياراتها وشح في حدائقها و ارتفاع في منسوب ظواهر الانحراف فيها و احتلال أملاكها العامة وانعدام مراحيضها العمومية وفوضى حركة السير والجولان فيها واختناق شوارعها وأسواقها ... وسواء أكبرت المدينة في عيون البعض أم صغرت في عيون البعض الآخر فإن الواقع الذي نقطع بصحته هو أن كل شيئ في طنجة قد تغير وصار يشي بأن المدينة فعلا قد كبرت وتمددت و توهجت حتى أن ذكرها ما فتئ يجري على ألسنة الأفواه الاعلامية التي أصبحت تلوكها بإعجاب وتطنب في مدحها والتغني بألقها وبريقها ... يقال أن المدينة تجمع فيها من البهاء والجاذبية ما تفرق في غيرها من بقية المدن المغربية حتى أن من يحل بها لا يستطيع الفكاك من أسر جاذبيتها، بل إن الشوق إليها لن يلبث أن يتدفق في نفسه بعد أن يغادرها حتى لا يملك في نهاية المطاف إلا أن يعاود زيارتها وهو يمني نفسه بالاستقرار فيها . لا بد من الاعتراف أن هذا القول فيه نظر ، فالمدينة المشرعة ذراعيها للجميع لا تلفظ أحدا حتى أنها صارت كخلية النحل تسع الجميع وتموج حتى الثمالة بصنوف الناس المختلفة أطيافهم وسحناتهم ولهجاتهم . من هؤلاء من يعيش في كنفها في نعيم ودعة ومنهم من يشكو شظف العيش وضنكها . صحيح أن المدينة اكتسب وجهها علائم الإشراق والبذخ ورغادة العيش وبحبوحته ، غير أن جسمها في المقابل صار يخفي في بعض حناياه ملامح البؤس والحرمان والوجع والشقاء . فالمدينة المثقلة بالغلاء وبالفوارق الطبقية أصبحت تغص بالعاطلين والسماسرة والمتسولين والمتسكعين والمنحرفين .... من يعيش في طنجة ويعرف حق المعرفة أوضاعها وأحوالها الاجتماعية لا يغيب عنه أن هذه المدينة الجميلة تحمل مشاهد الأفراح والأحلام بقدر ما تحمل مظاهر الأتراح والأنين ...إن للمدينة طوايا وأسرارا لا تفصح عنها إلا لمن لازمها زمنا طويلا ، بعض تلك الأسرار ترسم في وجوه أهل المدينة سمات التبرم والتجهم وبعضها تضفي على تلك الوجوه أمارات الرضا والدعة ... أحيانا يتفق أن يعتري نفسي الملل فأشعر أن مدينتي الكبرى صارت على رحبها أضيق من أن تسعني وذلك بسبب الزحمة وتدافع المناكب و جلبة السابلة و صياح البائعين وأبواق السيارات وعوادمها وحشرجاتها التي تملأ الأذان وتقبض النفس ... حينئذ لا أجد مندوحة من أن أتجافى عن كل ذلك فأفزع إما إلى دروب المدينة العتيقة لأسري عن نفسي بجولة أو أشق الطريق إلى مشارف المدينة المطلة على البحر لأنعم بجلسة وادعة وأعب من فتنة المشاهد الساحرة على امتداد شواطئها لاسيما إذا صفا الأفق وتبدت لي على مرمى العين قطعة من الفردوس المفقود ... لكم يروقني أن تحملني قدماي إلى قلب مدينتي وأخترق دروبها العتيقة المتفاوتة ضيقا وسعة و التي صرفت فيها شطرا من طفولتي وصغت فيها أحلامي البريئة التي ما تحقق منها إلا القليل . لكم يحلو لي أن أذرع متمهلا أرجاءها الملتوية وأتوغل في متاهاتها و أملي عيني من مبانيها وأبوابها وشرفاتها وأسطحها المتقابلة والمتعانقة التي تعبق بعبير الماضي ...لكم يطيب لي أن أسير فيها من غير أن تضايقني المناكب أو يستبد بي الصخب خصوصا في ساعات الصباح ... بعض ربوع مدينتي العتيقة تسكن وجداني و تستوقفني وتمنحني معالمها وأزقتها مساحة للتأمل كلما حللت بها ، وأذكر من بين تلك الربوع ساحة "سوق الداخل" ، "واد أحرضان" ، "دار الدباغ" ، "زنيقة واحد" ،"القصبة " ،"عقبة أمراح "، ،"جنان قبطان "، "السقاية"، "باب الطياطرو" ، "السوق دبارا "، و"خوصفاط " و"حجرة غنام " وأحياء "مرشان" وغيرها كثير ... في تلك الربوع التي ماتزال شاهدة على مرح طفولتي وشغبها يحلو لي أن أتمشى و أدير بصري في واجهات الأبنية القديمة وأصغي إلى نبضات و حكايات ذلك الموروث الحضاري حيث تستفيق في خالدي نتف من ذكريات الصبا التي لم تبرح ذاكرتي حتى اليوم فيتأجج لهيب حنيني إلى الماضي ، ذلك الحنين الذي يملأني دفءا وانشراحا ويجعلني أتخفف من كل ما يشغلني وأنفض عني عجاج كل ما يثقلني من تعب المدينة المكتظة . يخيل إلي أن بعض المعالم المهجورة التي تصافحها عيناي في تلك الربوع العتيقة والتي تبدو لي اليوم هرمة خالية من مساحيق التجميل ما كانت حتى وقت قريب تلقي بالا لعقارب الزمن ولا لسطوته ... يخيل إلي أنها اليوم تنوح و تشكو بثها وحزنها بل وتستغيث بعد أن دثرها الهجر والإهمال والنسيان . أحيانا يتفق أن أسلك بعض تلك الربوع ، فتتوارى بسمتي حين لا أصادف إلا وجوها لا أعرفها وأجسادا منهوكة قذفها الشقاء وأبنية مهجورة غاض بهاؤها وانكفأت على نفسها تنتظر رحيلها ، عندئذ يعتلج بين جوانح نفسي إحساس بالكرب والحسرة . ولكم يروقني كذلك حين أنشد طرح ما يثقلني من سآمة في مدينتي المزدحمة أن تستقبلني لكن في غير فصل الصيف بعض مشارف سواحلها . لكم يحلو لي أن أقصد مشارف شواطئ "سيدي قنقوش" و"وادليان " و"الزرارع" و"الديكي" و"الزهارا " و"القصر الصغير" و"الدالية " وغيرها ... يخيل إلي أن تلك المشارف الساحلية الندية الساحرة التي تنطق كل مرهف حس زارها وجدت لاستقبال كل متعب أو مكروب أو محزون ...حينما أتواجد في إحدى تلك الأطراف في مواجهة البحر ، كل شيئ يبتسم لي ويمنحني لمسة سحر بهي ...هناك تحملني النظرات إلى ما وراء البحر ، فتسكن النفس وتنتشي ....هناك تسمو العين في انشراح إلى كل ما يتراءى لها من جبال ورمال وأحجار وسماء وماء ... هناك يطوف البصر مشدودا ويتطلع الفؤاد مأخوذا وتتيه النفس ذهولا ... حينما أتواجد في إحدى تلك المشارف الشاطئية فإنني لا أملك إلا أن أطيل مكثي بها ولا أكر راجعا إلا بعد أن تجنح الشمس نحو المغيب و يلف مدينتي الظلام وتتوشى بساطع الأنوار ... لطنجة كلها عشق خاص حتى أني لا يستقر لي قرار إن توارى عن عيني مرآها ، أما أحياؤها العتيقة ومشارفها الساحلية التي تسكنني وأسكنها فمنسوب عشقها في أوصالي قد بلغ مداه ، فلا تعجبوا إن تلاشى ضيقي وكدري كلما ارتميت بين أحضان تلك الربوع التي يملأني اليقين أن عشقي لها يقتسمه معي معظم أبناء مدينتي ....