كنت ما أزال حبيسا في بيتي عصر ذلك اليوم الرمضاني حتى قيض الله لي أن أبارحه بعد أن طوحت بي الرغبة لاقتناء بعض الحاجيات الضرورية . حينما غادرت البيت كنت أسير الهوينا في شارع يقطعه الناس جيئة وذهابا حتى بلغت محيط سوق في وسط مدينة طنجة ،وهو سوق صفيحي تعطل مشروع إعادة هيكلته منذ سنوات ، لكنه ما يزال قائما تتزاحم في ممراته الضيقة كل يوم حشود من المتبضعين . في محيط السوق كان الباعة المتجولون مرابطين على حافة رصيف قد أخذوا مجالسهم بجانب عرباتهم وهم يملأون أرجاء المكان صخبا وصياحا ويلوحون بأيديهم داعين الناس للشراء والاقتناء . كان الرصيف قد سد بالكامل أمام المشاة بعد أن استحال معرضا لأصناف شتى من الخضر والفواكه ، على حين كان المارة يتحركون في غدو ورواح وهم يتقاسمون في سيرهم الطريق مع السيارات التي كانت تسير متقاربة وتتوقف من حين لآخر . كنت أسير بمحاذاة عربات الباعة وأنا مستغرق في التطلع إلى وجوه الناس الذين كانوا يلتهمون بنظراتهم ما تلذ عيونهم وتشتهي نفوسهم من البضائع المعروضة . بدا لي أن أغلب الناس قد حاقت بهم الخصاصة والعوز وضاقت صدورهم من غلاء الأسعار ، فأكثرهم يساومون ولا يشترون، بل يكتفون بالنظر إلى البضائع المعروضة بعيون مشوقة من غير أن يستطيعوا إليها سبيلا . رأيت بعض المتسوقين الذين خذلتهم جيوبهم يكتفون بشراء حبة أو حبتين من كل صنف من أصناف الخضر أو الفواكه . وهذه الظاهرة لم تكن معهودة من قبل في أسواق المدينة . ولعل ما استرعى نظري وأنا أغدو في ذلك الشارع المحموم بالحركة امرأة لا تخلو من تأنق كانت تساوم في احتشام أحد البائعين عن بعض الخضر الفاسدة التي عزلها في أحد الصناديق ، ساورتني الشفقة حيال تلك المرأة التي كانت تخفي نصف وجهها بنظارة سوداء. والحال أن شريحة من ساكنة المدينة أصبحت مقهورة ومغلوبة تعيش في تقتير و عناء بعد أن استعرت أثمنة المواد الغذائية و باتت تبتلع بلا رحمة ما في جيوبها من مال كلما حلت بمتجر أو سوق . ولعل مما راعني كذلك وأنا أخترق جموع الناس في محيط ذلك السوق هو تفاقم عدد المستجدين الذين كانوا يطاردون المارين في اجتراء ويسألونهم إلحافا. حينما ولجت السوق الصفيحي ، كنت أتفادى أن أقحم نفسي بين المتسوقين في الممرات الضيقة . بدا لي أن بعض الناس كان يحلو لهم الطواف بالسوق وهم يسيرون على غير هدى ومن غير أن يجدوا لهم قرارا أو يشتروا لأنفسهم بضاعة . حسبت أنهم يفعلون ذلك إما تزجية للوقت أو بسبب ضعف ذات اليد أو من أجل مآرب أخرى . وفي لحظة اتفق أنني كنت أسير شارد الفكر في ممر ضيق داخل ذلك السوق . وعلى حين غرة، عطس أمامي رجل نحيل عطسة مجلجلة مروعة سمع لها دوي ارتجت له جنبات الممر ، أو هكذا خيل إلي ، فاعترتني على أثر تلك العطسة هزة ، فلم أملك إلا أن عطفت وجهي نحو العاطس ثم سددت إليه نظرة نكراء بعدما زار وجهي رذاذً عطسته ، فتسامى الرجل العاطس برأسه وعقد حاجبيه وشمخ بأنفه ثم تجهم لي وهو يجابهني بنظرات زاجرة ومستهينة كما لو كانت قد بدرت مني في حقه حركة مشينة . والواقع أن الرجل قد هالتني نظراته المريبة التي قرأت فيها أنه يسعى إلى الدخول في عراك، بل إنني خشيت وقتئذ أن يقذفني بسبة أو يباغثني بلكمة . كنت في تلك الأثناء أغلي في داخلي بعد أن استعر الغضب في أوصالي وتراكمت الكلمات الملتهبة في حلقي . بيد أنني كظمتها وأبيت أن أقصفه بها ، فأنا لا أجيد فن القصف بالكلمات الجارحة ، لذلك تمالكت نفسي وكتمت ما اعتمل في صدري . لكن نفسي حدثتني بعد ذلك بأن الرجل النحيل حسب صمتي جبنا وارتياعا . كان طبيعيا وأنا في تلك الحالة أن يكون لي رد على نظراته المتقدة بعدما لم يجر الكلام بيننا . وما أسرع ما خطر لي العمل بمبدأ خير وسيلة للدفاع الهجوم ، فجعلت أرمق الرجل بنظرات تنطق بالحنق والغيظ وتنذر بأني مقبل على شر، ثم إنني طفقت أقلب عيني في هيئته و كومت أصابعي ثم خطوت نحوه خطوة ورفعت ذراعي كأني أهم بأن أنقض عليه ، فما كان إلا أن ارتدع وانثنى وانعقد لسانه ، وإذا به قد أشاح بوجهه عني ثم ولى ظهره وهو يهمهم و يغمغم بكلمات لم أتبينها . وما هي إلا أن مضى الرجل في سبيله واجما مقطبا متكوما لا يلوي على شيء حتى طواه الزحام عن بصري ، بينما سرت إلى حال سبيلي في سلام وأنا أبسمل وأحولق وقد خمد لهيب غضبي بعدما صرف الله عني إذايته ونزهت لساني عن الشتم والقدح وعما يمكن أن يفسد صيامي . بعد أن غادرت المكان ، وفيما كنت مارا بين السيارات وسط شارع غير بعيد عن بوابة السوق ، تناهى إلى مسمعي صوت صراخ ولغط ، فلاحت مني التفاتة إلى مصدر الصوت، ففوجئت بعدما وقعت عيناي على نفس الرجل النحيل الذي قصفني بعطسته وهو يتشاجر مع رجل قصير و ينهال عليه بساقط الكلمات وبكل قبيح من الصفات . وجدتني بعد ذلك وقد تدانيت من جموع الناس الذين كانوا متحلقين حول الرجلين ، ووقفت خلفهم أشرئب بهامتي متحاشيا أن أحشر جسدي بين أجساد المتطلعين . ثم إنني ملت بعد ذلك على شاب كان على مقربة مني ، وما أن سألته عن سبب الخصام بين الرجلين حتى رفع بصره نحوي ونظر إلي وقد تهلل وجهه ولاحت عليه ابتسامة لم أعرف لها سببا . ظننت أن الشاب يعرفني ، لكن ما هي إلا أن تبين لي أنه لا يعرفني و أن سؤالي راقه وأوحى إليه أنه عثر على مستمع ظريف سيزجي الوقت بالحديث معه في ذلك اليوم الرمضاني المديد. لذلك ما أن أخبرني الشاب بسبب الخصام بين الرجلين حتى انبرى يسرد لي بإطناب فصول ما شهده محيط السوق خلال الأسبوع الأول من الشهر الفضيل من عراك وشجار ومشاحنات بين الناس كان شاهد عيان عليها . بدا لي أن الشاب مفتون بتتبع المشاجرات والخصومات التي يشهدها محيط السوق في رمضان ، إذ لم يكن يجري على لسانه وهو يحدثني إلا كلمات من قبيل السب و الضرب والجرح والسيف والطعن… كنت أسمعه دون أن أعقب على ما يقول. والحقيقة أنني لم يكن يتملكني فضول للاستماع إليه ، بل إنني ضقت بحديثه ذرعا ، لذلك أحسست في لحظة أنه يكبلني بكلامه الذي ثقل على مسمعي ، بل إنني شعرت أن الرجل كان يمني النفس في أن أستمع إليه حتى تميل الشمس إلى المغيب . لأجل ذلك رمت التخلص منه ،غير أنني كنت كلما تهيأت لفراقه كان يجذبني بلطف من كم قميصي وهو يروي لي بقية فصول مسلسل المشاجرات بين الناس. وفي لحظة عيل صبري ، فلم أجد مناصا من الاعتذار إليه والانسحاب بلباقة بعد أن أنبأته بأن صديقا في انتظاري. فانسحبت قبل أن يشفي الشاب غليله من الحكي . ما كدت أواصل سيري بعدما بارحت ذلك المكان وانعطفت نحو شارع محموم بالحركة حتى أبصرت جماعة من الناس تحف بامرأة أربعينية بدينة كانت تصيح في وجه رجل ضامر الجسم وهي تفك رباط شعرها الأشيب وتقصفه بأرذل النعوت وأبشع الصفات … كانت المرأة البدينة مهتاجة يغشى الشحوب وجهها ، وكانت تتشبث بقميص الرجل و تشكوه إلى شرذمة من الفضوليين الذين كانوا متجمهرين عليهما وهم يحاولون أن يسكنوا من روع المرأة ويطيبوا خاطرها ، لكن المرأة البدينة كانت عصية على أن تلين ،على حين كان الرجل الذي انتشر بين الحاضرين أنه زوجها يحاول أن يدفعها عنه وهو يطوف بعينيه المتلظيتين فيما حوله من المتجمهرين كأنه يستنجد بهم ليردوا عنه غائلة المرأة ، وكان كابحا نفسه ، قد نضب ريقه حتى ما عاد ينبس بكلمة ، ومن حين لآخر كان يجفف بكم قميصه جبينه من العرق ويبذل جهده محاولا الإفلات من قبضة المرأة ، بيد أنه كان كلما هم بأن يخطو نحو الأمام خطوة محاولا شق الزحام كانت المرأة تصده وهي تتشبت بقميصه مهددة و متوعدة . وألفيتني في تلك الأثناء جامدا في مكاني أرقب ذلك المشهد الذي تملكتني في شأنه رأفة تجاه ذلك الرجل. لم تطل وقفتي في ذلك المكان ، حيث أنني ما كدت أغادره حتى صادفت طابورا من السيارات المتوقفة التي كان سائقوها قد انهمكوا في إطلاق العنان لأبواق سياراتهم في ملتقى شارع كان يعج بطوفان من الناس والعربات والبضائع …وفي لحظة أبصرت شابا يترجل من دراجة ثلاثية العجلات بعد أن قطع بها الطريق ثم انبرى يمطر سائق سيارة أجرة بوابل من السب والقذف وهو يحمل في يده هراوة غليظة يلوح بها ويهدد بأن يهوي بها على رأس السائق الذي لم يملك إلا أن نكس رأسه وأمسك عن الكلام. في تلك الأثناء انبعثت في ذاكرتي مشاهد من معركة سابقة كادت لولا لطف الله أن تدور بالسيوف في نفس الشارع خلال شهر رمضان قبل خمس سنوات، إذ تمثل لي مشهد ثلاثة شبان مروا مسرعين آنذاك على مقربة مني وهم يشهرون السيوف البواتِر و يطاردون شابا كان مدججا بدوره بسيف صارم بتار يضاهي سيف الساموراي الياباني . تذكرت تلك اللحظات المرعبة التي تولى خلالها جموع المارين الروع و الهلع ،إذ شاهدتهم يتفرقون ما بين هارب ومتجنب وفاسح المجال لأولائك الشبان المسلحين الذين كانوا يلاحقون الشاب المطارَد صائحين كأنهم مقبلون على غزوة أو نازلون إلى ساحة الوغى. ولو أن تلك الواقعة حدثت في غير ذلك الشارع المزدحم بالسابلة لقلت أن مشهدا من أفلام الفتوحات التاريخية يتم تصويره . وما أسرع ما أفقت من غفوة تلك الذكرى المرعبة على إيقاع الجلبة والضوضاء ورائحة الحلويات الرمضانية التي كان الهواء يحملها إلى أنفي ، ثم انثنيت راجعا نحو بيتي وقد انطويت على نفسي أفكر في تلك النزاعات والخصومات التي تحتدم في شهر فضيل يفترض أن يكون شهر العفو والتسامح وكظم الغيظ .