كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل ، مازلت أتسكع بشوارع لندن ليلا ، سأظل على هذا الحال إلى غاية الصباح ، سأقتل الوقت وكأنه آفة لا بد من قتلها ، ليس لدي بيت آوي اليه ، هذا هو حال التعساء أمثالي . أمر بظروف قاسية لكني لست خائفا ، تشع بداخلي فسحة الأمل ، لا بد للحياة أن تكون أفضل ، أشعر بارتياح شديد بالرغم من قلة حيلة يدي ، لأن صديقي خالد سيأويني في بيت عمه كما وعدني ، قلبي يحدثني بأن خالد لن يخذلني ، فقد صادقته لسنوات عديدة بمدينة العرائش ، لم ألحظ في سلوكه ما يدعو للارتياب ، لايراودني أدنى شك بأنه من طينة أصيلة . منذ وطأت قدماي عاصمة الضباب وأنا أعيش على هذا الحال ، احتضنتني للا ارحيمو ببيتها خلال أحلك مرحلة في حياتي ، لم أكن أتوقع أنها ستعاملني بذاك الدفئ والكرم وهي لا تعرفني ، فليس هناك قرابة عائلية تجمعنا ، فنحن مجرد (رائحة شحمة في ساطور) كما يقول مثلنا المغربي ، أصبحت أتوسم الخير في الناس منذ ذلك الحين ، أصبحت خبيرا في قراءة ملامح وجوههم ، من سيساعدني ومن سيحجب عن ذلك . منذ وصلت لندن وأنا لا أدري أين سيكون مبيتي ، ألجأ من بيت الى آخر وكأني نحلة تطير من زهرة إلى أخرى تسعى لرحيقها . أكاد أجزم أنني خلال شهر واحد تنقلت بين خمسة بيوت في كل جهات لندن ، كنت قد فوضت أمري إلى الله لحظة نزولي في محطة "شارينغ كروس" ، استسلمت للقدر ، ومضيت في طريقي . قادتني قدماي في هذا الليل الصاخب إلى حي سوهو الشهير بقلب لندن . مع حلول الظلام يتحول هذا الحي النابض بالحياة إلى وجهة الباحثين عن المتعة والترفيه .. مطاعم ، حانات ، مراقص ليلية ، ونوادي للعروض الفنية . عندما تتجول في سوهو تمر أمام أبواب داكنة يحرسها رجال غلاظ أقوياء البنية ، يلبسون بدلات سوداء وكأنهم "غوريلات" ، يسمونهم "باونصر" ، رجال صامتون ، تحمل عيونهم نظرات حادة ، يقفون متسمرين عند أبواب البارات والنوادي الليلية ."كريس" باونصر أسود ضخم الجثة ، حليق الرأس , يضع قرطا على أذنه اليسرى ، ووشم كبير للزعيم "ماوتسي تونغ" على ذراعه الأيمن المفتول ، يقف عند باب كباري يدعى "فابريك" ، عندما تراه تأخذك الرهبة ، ساعدان مشدودان إلى الأمام لكي يبدو أكثر جدية وصرامة . تتخيله "هامان" ، يتحدث بصلف وعنجهية مع بعض الشباب المتهور ، الشبان الإنجليز لما تلعب الخمرة برؤوسهم يتحولون إلى مشاغبين وفوضويين ، يشتبكون مع كريس في الكلام فيقذف بهم بقوة خارج الكباري . يضطر أن يعاملهم بغلظة مفرطة وكأنهم أشخاص منبوذون . نشبت معركة عنيفة أمام عيني بين شابتين من بائعات الهوى عند مدخل كباري "فابريك" ، خدش وشد للشعر ، كل شابة تغرس أظافرها في وجه الأخرى وتمزق ملابسها ، فيتدخل كريس لفض الاشتباك ويقذف بهما بعيدا عن باب الكباري وسط الشارع حيث يستمر عراك العاهرات . دور كريس هو الحفاظ على استتباب الأمن وإخلاء الملهى من المشاغبين عندما تسود الفوضى . أمر بجانب نوادي غريبة ، أضواء قرمزية وصخب ينبعث من داخل هذه الأمكنة المشبوهة ، نوادي تقدم عروضا في الإثارة الجنسية تحت مسمى الفن والترفيه . يعبر المكان شباب يمشي جيئة وذهابا ، بعضهم يروجون للمخدرات القوية ، وآخرون يمارسون القوادة داخل الأقبية وعلب الليل ، ومنهم من يصطاد بعض ضحاياه قصد الإبتزاز وسلب الجيوب بالخداع أو بالقوة . في حي سوهو قد تبدأ ليلتك فرحا كفراشة متطايرة وقد ينتهي بك الأمر إلى تعاسة غير متوقعة . إنه حي مثير وخطير في آن واحد . أقضي الليل متسكعا في الشوارع للمرة الثانية في حياتي ، تسكعت في أصيلا للمرة الأولى قبل خمس سنوات على إثر شنآن حصل بيني وبين صديقي حميد . لم يكن عمري قد تجاوز السابعة عشرة أنذاك . قام المهرجان الثقافي لأصيلة بداية الثمانينيات بتنظيم مباراة استعراضية لكرة السلة في وسط المدينة ، فتم استدعاء فريق البنك الشعبي الطنجي وفريق النجم العرائشي ، كان الفريقان كلاهما ضمن القسم الوطني الأول . ذات يوم قائظ ، سافرنا إلى مدينة أصيلة في حافلة متهالكة ، توقيت المباراة على الساعة الخامسة ونصف مساء ، مكان المباراة قرب المحطة الطرقية قبالة مقهى إفران ، قامت إدارة المهرجان برسم الملعب وتخطيطه بصباغة بيضاء على الإسفلت . حج إلى الملعب جمهور غفير من السياح والمستجمين . استعد الجمعان لهذه المقابلة المشوقة ، كان فريق طنجة يضم لاعبين دوليين كبار : حسن بن خدوج ومزواري إضافة إلى باديسي واللاعب "إبليس" سيف الدين ، أما فريقنا نجم العرائش فكان يضم : الصديق ، موري ، البريق ، شفيق ، عثمان والبوعناني . انتهت المبارة بهزيمة ثقيلة لفريقنا وانتصر الفريق الطنجي ب 95/61 . بعد انتهاء المباراة قررنا الذهاب إلى ملهى ليلي . كنا شبابا يافعين ، أمضينا ليلتنا نرقص ونتمايل على موسيقى غربية صاخبة وأضواء ملونة تشع في كل جوانب الملهى ، كان صديقنا شفيق متميزا في رقصاته الساحرة على أغاني "البجيس" ، كان خفيف الظل والحركة ، أخليت له الحلبة وأخذ يرقص لوحده باحترافية فائقة ، كان يحاكي جون ترافولتا كثيرا ، جميع الرواد ظلوا مشدوهين بما فيهم الأجانب ، يستمتعون بأدائه المبهر وحركاته السريعة وكأنه لاعب أكروباط . يحدق فينا بعينيه اللامعتين ، يحرك رأسه ويستدير بيديه يمينا ويسارا ، كانت ليلة بنكهة عرائشية صاخبة . لفظنا الملهى في ليل جد متأخر ، توجهنا جميعا مع حميد إلى بيت جدته لنقضي الليلة على سطح المنزل نلتحف السماء ، لكن صديقي كان له رأي آخر ، التفت نحوي وفاجأني بقراره قائلا : – لا يوجد لك مكان شاغر معنا ، عليك أن تدبر أمرك وتبحث عن مكان ما تقضي فيه ليلتك ! امتعضت كثيرا من سلوك صديقي حميد ، شعرت بالإقصاء والإهانة ، لكنني كظمت غيظي وانصرفت في حالي أتسكع في شوارع أصيلا حتى أدركت الصباح . كان لحميد حسابات قديمة معي تعمد تصفيتها معي خلال تلك الليلة على خلفية احتكاكي به خلال التداريب بملعب الشبيبة ، لم يكن مضى سوى أسبوع واحد على دوري نظمته جمعية "لاميج" بالعرائش . كان حميد يرتدي قميصا رفيعا من نوع "نايك" وحذاء رياضيا "أديداس" خلال المباراة…. يتبع…