شكل موضوع "الوقف بين إكراهات الواقع ورهانات التنمية" محور ندوة علمية نظمها المجلس العلمي المحلي، بطنجة أمس الجمعة، بمشاركة علماء وخبراء وباحثين في مجالي الاقتصاد والقانون الخاص والشؤون الدينية. وأكد رئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، سعيد بلبشير، في كلمة بالمناسبة، على أهمية الوقف في المغرب كآلية من الآليات المالية والدينية والتنظيمية لمواكبة المسار التنموي والسوسيو-اقتصادي وتقاسم الرأسمال المادي والمعنوي وتحقيق المساواة داخل المجتمع، والعناية بالفئات المحتاجة على مستوى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية لليتامى والمرضى والمسنين ونشر القيم الإسلامية السمحاء. وأضاف أن المغرب أولى اهتماما خاصا للوقف، سواء في العصور الماضية أو في العصر الحديث، من أجل بناء الإنسان وتربيته على القيم الروحية، وتحقيق مشروع اجتماعي أخلاقي يقوم على التآزر والتعاون والتضامن وحسن تدبير مالية المجتمع وضمان الحياة الكريمة لكل أفراد المجتمع، ومعالجة الأوضاع الاجتماعية وتجويد تدبير الشأن العام. واعتبر سعيد بلبشير أن الوقف، بالإضافة إلى أبعاده المركزة على الإنسان، فإن له دورا أساسيا في تفعيل الجهوية وتوفير سبل نجاحها، وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعيين والعدالة المجالية، وتحقيق التناسق بين التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، والتوزيع العادل للثروة وضمان تكافؤ الفرص بين كل المواطنين. وقال رئيس المجلس العلمي المحلي لطنجةأصيلة، محمد كنون الحسني، إن المغرب تميز منذ القدم بإقدام المغاربة، بسخاء، على وقف أملاكهم في كل المجالات للاعتناء بالفئات الهشة داخل المجتمع، مبرزا أن المغاربة واصلوا اهتمامهم بالوقف إلى الوقت المعاصر، وهو ما مكن،بفضل العناية الخاصة التي يوليها أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس للشأن الديني والاجتماعي، من وضع الضوابط القانونية والتنظيمية للوقف، وتخصيص مدونة للوقف تقعد لسبل صرف الأموال، ومراقبة صرفها لبلوغ الهدف النبيل من الوقف، وإنشاء مجلس أعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة. وأوضح، في هذا السياق، أن الدولة والمجتمع أعطت للوقف منحى حداثيا يتماشى ويواكب استثمار المغرب في الإنسان كرأسمال لا مادي والنهوض بأسس التنمية الاجتماعية بكل تجلياتها، مما جعل من الوقف آلية داعمة وناجعة للتجاوب مع حاجيات المجتمع وانتظاراته الآنية والمستقبلية. وبدوره، أبرز عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، يحيى يحيا، أن الوقف بالمغرب تجاوز منحاه التقليدي ليساهم، بشكل جلي، في مسار الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي يقودها المغرب بثبات، وجعل الوقف في خدمة الاهتمامات التنموية كما جعل الإنسان بماله وخبرته في خدمة المجتمع. كما أبرز أن الوقف أضحى بفضل الاهتمام الخاص الذي أولى له المغاربة ركنا من أركان بناء مجتمع لا وجود فيه للفوارق، وتتاح فيه كل فرص التحصيل والتعليم والمعرفة والعمل المجدي. وأشار الكاتب العام للمجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، عبد الرزاق اصبيحي، إلى أن الوقف لم يعد يقتصر على المال والعقار، بل تجاوز ذلك في الوقت الراهن ليركز على "الوقت" حتى يلامس كل احتياجات الإنسان في الوقت الحديث، موضحا أنه يمكن للإنسان أن يوقف خبرته وعلمه وكفاءاته المهنية والمعرفية لصالح وفائدة المشاريع التنموية والاجتماعية وخدمة المؤسسات الاجتماعية والخيرية والتعليمية والتكوينية. وذكر اصبيحي، في هذا المنحى، بأن المذهب المالكي رخص لكل أفراد المجتمع دون غيره من المذاهب أن يحبس الإنسان ذاته وتكوينه وقدراته الفكرية وخبراته في كل المجالات المهنية لما ينفع المجتمع ومسلسل البناء الاجتماعي والاقتصادي. وأكدت باقي المداخلات خلال اللقاء، المنظم بتنسيق مع المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف بالرباط، وماستر المهن القانونية والقضائية بكلية العلوم القانونية بطنجة، على حرص المغاربة على التنافس في مجال الصدقة الجارية، التي استوعبت كل المجالات، واستجابت لكل الحاجات لمعالجة مظاهر الفقر والعوز والرفق بالحيوانات، ما مكن الوقف من المساهمة، بحظ وافر، في عملية التطور والنمو الاقتصادي والاجتماعي. واعتبرت المداخلات أن الوقف في المغرب انخرط في منظور اقتصادي واجتماعي جديد لمسايرة التحولات الكبرى، والارتقاء بهذا القطاع ليضطلع بأدواره التنموية، من خلال ترسانة قانونية تهدف إلى وضع الأسس القانونية والنظم التدبيرية لتحسين طرق تدبير الوقف والمحافظة على الأصول الوقفية وتنمية عائداتها واستثماراتها. وأشارت إلى أن المنظومة الجديدة للأوقاف تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجال الوقفي، وتستند في أحكامها من جهة إلى الفقه المالكي باجتهاد متجدد، وكذا ما يحقق من مصلحة الوقف، ومن جهة ثانية ملاءمة مقتضيات التشريع المغربي مع الطبيعة الخاصة للوقف. وتأتي هذه الندوة، حسب المنظمين، من أجل مقاربة موضوع الوقف في علاقته بالتنمية، ومن خلال مساءلة الإطار القانوني والتنظيمي للأملاك الوقفية وأساليب استغلالها واستثمارها وتنميتها، مع التركيز على بعض الخصوصيات التي تتميز بها جهة طنجةتطوانالحسيمة، والتي تتحكم فيها مجموعة من الاعتبارات الجغرافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وتضمن برنامج هذه الندوة محورين أساسيين ناقشا "نظام الوقف اجتماعيا واقتصاديا" و"نظام الوقف .. تشريعا وقضاء"، كما ستتناول الندوة، في عروض موضوعاتية، "وضعية عقارات الأحباس العامة في مدونة الأوقاف"، و"نظرات في كراء الأموال الموقوفة وقفا عاما"، و"منازعات الأوقاف من خلال قرارات محكمة الاستئناف بطنجة"، و"عقارات الأوقاف وإكراهات وثائق التعمير"، و"التطور التشريعي لمسطرة نزع ملكية الأوقاف .. قراءة في المسار والمرتكزات". كما ناقشت الندوة، في نفس السياق، "الوقف وأهميته في تنمية مبدأ النفع العام في المجتمع"، و"والوقف بين الأمس واليوم"، و"خصوصيات وتنوع الوقف في المغرب"، و"الوقف التنموي"، و"الأبعاد الاجتماعية للوقف بطنجة من خلال أرشيف المغرب" و"أي مستقبل للأوقاف ضمن مشروع طنجة الكبرى.