مرة أخرى تتألق أصيلة. فأصيلة، كما العادة كل سنة منذ ثلاث وثلاثين سنة، كانت على موعد مع موسمها. كانت على موعد مع فضاء الحرية والانفتاح والتطور بعيدا عن أي نوع من العقد. هذه المرة، انعكست أجواء الحراك الصحي الذي يشهده الشارع في المغرب على الموسم نفسه. لذلك تصدى أهل أصيلة بطريقة حضارية لمجموعة من المزايدين سعت للإساءة للموسم ونشاطاته وللمدينة نفسها وعزلتهم. أكد ذلك مدى تعلق أهل أصيلة بالموسم من جهة ومدى اهتمام السلطات المغربية به من جهة أخرى. كان ملفتا أن الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى الموسم تلاها نيابة عنه السيد محمد بن عيسى وزير الخارجية السابق والأمين العام ل"مؤسسة منتدى أصيلة". ربما كانت تلك المرة الأولى في المغرب التي تتولى شخصية من خارج الحكومة أو الديوان الملكي، أي احد مستشاري الملك، تلاوة رسالة صادرة عن العاهل المغربي. كانت الرسالة ذات بعد حضاري بتطرقها إلى موضوع "الهجرة بين الهوية الوطنية والهوية الكونية". جاء في الرسالة الملكية: "أن المغرب كمستقبل للهجرة ومصدر ونقطة عبور لها، لا يساوره الخوف من ظاهرة الهجرة، بل يعتبرها علامة تنوع وغنى ومصدر ثراء ثقافي وحضاري". يتماشى ذلك مع الدستور الجديد الذي أيدته أكثرية ساحقة من المغاربة في أول تموز – يوليو الجاري. تحدث الدستور عن المغرب بصفة كونه "دولة إسلامية ذات سيادة متشبثة بقيم الحضارات الإنسانية"، أكثر من ذلك، يتحدث الدستور عن المغرب ك "أمة موحدة قائمة على تنوع روافد هويتها: العربية، الأمازيغية، الحسانية، الصحراوية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية، المتوسطية".
تبين كم أن موسم أصيلة صار لصيقا بالمدينة وبالمغرب، وكم هناك حرص لدى أهل المدينة وزوارها الكثر على إنجاح الموسم الذي جعل من أصيلة إحدى الفعاليات الأكثر أهمية في القارة الإفريقية والعالم العربي وحتى القسم الجنوبي من الكرة الأرضية. من يعتقد أن في هذا الكلام مبالغة يمكن تذكيره بأن موسم أصيلة طرح للمرة الأولى موضوع العولمة في العام 1991، أي قبل أن يصبح مادة لنقاشات ولقاءات ومؤتمرات عالمية.
كانت الكويت ضيفة الشرف في موسم أصيلة للسنة 2011. شكل الحضور الكويتي مساهمة إيجابية في تأكيد أن "ما نشهده اليوم ، عالم تندثر فيه الحدود الجغرافية الطبيعية لتحل محلها حدود بديلة تتجسد في الكيانات الحضارية والثقافية إلى جانب المنظومات الاقتصادية والمعرفية"، ذلك على حد تعبير محمد بن عيسى في الكلمة التي افتتح بها الموسم.
طرح موسم أصيلة مرة أخرى مواضيع مرتبطة بالمستقبل. كان هناك بحث عميق في موضوع الهجرة من زاوية بعدها الحضاري من منطلق ما قاله الملك محمد السادس عن أن "المسلمين تعايشوا منذ القدم مع مختلف الشعوب، في المشرق والمغرب. وكان المغاربة وغيرهم من المسلمين في الأندلس خير مثال على ذلك على مدى قرون حيث توطدت الأواصر بين مكونات المجتمعات والشعوب المتوسطية، وأسهم الجميع في ارتقاء الفكر والمعرفة وازدهار الفنون والصنائع، ليتبلور ذلك في مزيج شكل نواة النهضة الأوروبية الحديثة التي شملت أنوارها بلدان العالم بأسره".
كما في كل سنة، كانت رسالة أصيلة رسالة الانفتاح واعتراف بالآخر والتطرق إلى كل ما هو حضاري في هذا العالم. المشكلة المطروحة هنا، أي في أصيلة، ليست في صراع الحضارات والتفاعل فيما بينها. ولأن أصيلة تتطلع دائما إلى أمام، كان طبيعيا أن تكون هناك ندوات مخصصة للطاقة والتكنولوجيا الجديدة بما يحمي البيئة ويمكن الدول التي لا تمتلك نفطا أو غازا من الاستفادة من الطاقة الشمسية والرياح.
في ندوة مهمة شارك فيها خبراء عرب وأوروبيون، عرض المغرب تجربته في مجال الاستفادة من الطاقة الشمسية والرياح لتوليد الكهرباء. إنه عالم جديد يسمح لدول معينة كالمغرب وإسبانيا بحماية البيئة والحصول على الطاقة من مصادر بديلة وحتى تصدير الفائض منها. ولعل التجربة المهمة في هذا المجال، هي تلك التي اعتمدتها دولة الإمارات العربية المتحدة التي أخذت على عاتقها تطوير مصادر الطاقة النظيفة على الرغم من أنها دولة نفطية. وكان الحضور الإماراتي مميزا في أصيلة إذ وجه الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية كلمة مسجلة إلى الندوة الخاصة بالتكنولوجيات والطاقة النظيفة عرض فيها الجهود التي تبذلها بلاده في هذا المجل عن طريق شركة "مصدر".
في عالم يتغير بسرعة وفي عالم عربي لا يعرف أين يتجه، وفر موسم أصيلة للسنة 2011فرصة ليسأل الإنسان العربي نفسه هل يعرف الشبان الثائرون ماذا يريدون؟ الأكيد أنهم لا يعرفون ذلك، لكنهم يعرفون ما الذي يرفضونه. من يزور أصيلة في السنة 2011 يخرج بانطباع فحواه أن النخب العربية لم تستطع بعد تكوين فكرة عن دورها في صياغة المستقبل وأنها في حال انتظار لما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة. الشيء الوحيد الأكيد أن هناك حكاما لدول معينة امتلكوا ما يكفي من الجرأة للذهاب بعيدا في الإصلاحات بما يخلق دينامية جديدة في البلد. يبدو أن المغرب من بين هذه الدول التي تشهد حاليا نقاشات جدية في شان كيفية التعاطي مع المتغيرات. لا شك أن موسم أصيلة يلعب دوره في إثراء هذه النقاشات وفتح آفاق المستقبل أمامها. (*) كاتب صحفي من دولة الكويت عمود خاص ب "طنجة 24"