بصعوبة يجر عبد الله رجليه،وكأن أغلالا من الحديد مشدودتين إلى رجليه، يخيل إليه الوصول إلى نافورة ساحة سوق دبرى كرحلة الشتاء والصيف، هذا ما يدور في مخه بدون ريب،لم يعد يقوى على المشي،يقطع مترا،ويستريح من خمس إلى عشر دقائق،هذا حاله منذ خروجه وعودته إلى البيت، منذ أن بدأت حالته الصحية تعود أدراجها إلى نقطة الصفر-القبر-لاتخرجه من بيته القصديري بحومة بني يدر سوى النوارس والقطط في طريق موعده مع النوارس والقطط ،يمر ببائعي الدواجن يحمل من عند كل محل بالسوق المركزي،كوارع" الفروج" وأجنحتها ورؤوسها،يضع الأمانة كما يسميها خلف باب السوق،وينزل بشق الأرواح أمتارا لسوق السمك المحاذي لمطحنة السلطان سابقا، بالقرب من فندق الشجرة بطريق "قلب شقلب" بحثاعن أشلاء الحوث وهياكلها العظمية كان عبد الله صاحب مركب صيد يدعى "النورس" قبل أن ينقلب حاله من الغنى إلى الفقر،بعد أن غرق مركبه بالبحر،وفقد أحد أبناءه ، كان يريده أن يكون نسخة طبق اصله ،ولكن موجة غاضبة،غرقت المركب وحلم عبد الله ، كان يضرب به المثل في صيد التونة، يحكى عنه أنه أخر من يخرج إلى عرض البحر،وأول من يعود إليه والأسماك تتدلى أجنحتها ورؤوسها من المركب من كل جهة، قصصه مع البحر لاتنتهي ،ومما ينسب إليه أنه كان يتخلص من الحوت في عرض البحر خوفا من غرق المركب ومن عليه من البحارة مباشرة بعد شذ وثاق حبال المركب مع عمود حديدي بالميناء،أول ما يفعله عبد الله الفن،ملء قفته من" العزف" بالسمك للنوارس والقطط،هذا ديدنه ودينه منذ أن أول يوم ركب فيه البحر مع الرايس المناري منذ خمسين سنة، إلى ان توقف عن العمل بعدما بدأ يخطأ فريسته في عرض البحر بسبب مرض أصيب به في عينيه لم تنته علاقة عبد الله بالبحر بعد فقدان مركبه وإبنه،ولا بعد ما أصيب بالرمد في عينيه، فإطعامه للنوارس والقطط،جعلت حبل سرته مع البحرلاتنقطع،كل يوم بعد صلاة الفجر،ينزل للميناء،يضرب له عصفورين بحجر واحد،يتذكر غزواته مع السمك في عرض البحر مع إشراقة الشمس الأولى، ومن هناك يجود عليه أصحاب الزوارق الذين يعرفونه ، بأنواع من السمك على إختلاف أسمائها وأشكالها وطولها،ما إن يطمئن للقفة قد إمتلئت ،يقفل عائدا إلى السوق المركزي بسوق دبرى،ليحمل أمانته من كوارع الفروج ورؤسها التي خلفها وراءه خلف باب السوق ما إن يظهر عبد الله من باب الفحص،بجلبابه الصوفي المحبب بالأبيض متكئاعلى خزيرانه التي يهش بها على بعض المتشردين،وهو بالكاد يجر رجليه وكأنه في وحل طيني يصل إلى ركبتيه ،تطير النوارس من على السطوح المحيطة بساحة سوق دبرى إلى النافورة في شكل جماعي في لحظة واحدة،لاتسمع إلا ضربات أجنحتها وولولتها ، هذا في سماء سوق دبرى،في الارض لايختلف المشهد عن أحداث السماء،جمهرة من القطط من كل جهة يحيط بعبد الله كالفلاح الذي ينثر البذور في الأرض،يرمي عبد السلام برؤوس الدجاج وكوارعها وبالأسماك للنوارس والقطط،الغريب أن القطط بجوار النوارس والنوارس بجوار القطط،الكل يأكل مما يليه ،كالأطفال المتحلقين على المائدة لايفسد هذا المنظر الجميل في حضرة سي عبد الله سوى بعض المتشردين، تجد كل نورس يبجع بمنقره بطن سمكة،ومن خلفه "شمكار " يتحين الفرصة لينقض على النورس أو على سردينة من منقاره،وكم من متشترد رأيته بأمي عيني يسرق من فم اللقالق رزقها ،ويعطي ساقيه للرياح في إتجاه " الجوطية" خوفا من قبضة "عبد الله" وهو يرمي لهم الطعام بالأرض، سقط مغشيا عليه،إرتفعت أصوات النوارس بالمكان وشرعت القطط في شكل جماعي تموء،وكأنها ترى مالايراه الجمع الذي تحلق على رأس سي عبد السلام،فجأة بدأت تعلو السطوح والمساجد بالساحة سحابة من النوارس،وكأنها جاءت تشيع سي عبد السلام إلى مثواه الأخير إنقلب الجو على عقبيه،إسودت السماء،وكأنها تبكي ،أو تنعي سي عبد السلام،إنقلب النهارإلى ليل،غربت الشمس قبل موعدهافي الأفق،سحب سوداء على شكل أحزمة ناسفة تكونت في السماء،لحظة إنهمرت الأمطار بغزارة،وسمعت أصوات الرعد والبرق ،وكأن السماء تولت غسل سي عبد السلام بنفسها،حمل سي عبد السلام في سيارة الاسعاف على وجه السرعة،في الطريق لفظ أنفاسه ضاحكا،فقبل ان يسلم نفسه لصانعها،رمق قطا تسلل خفية الى سيارة الاسعاف،توفي سي عبد السلام وعلى صدره قط صباح الغد،حجت إلى سوق دبرى أسراب من الحمام،علت سطوح المباني ،وأعمدة الانارة ،وسينما ريف ،وصومعة مسجد سيدي بوعبيد،والقراميد ،وسطح السوق المركزي،سكون الموت بالمكان،فجأة إرتفع صوت نورس من على المئذنة ،وكأنها ترنيمة عزاء،وشريط من القطط بطول مقطورات القطار بنافورة الساحة،القطط والنوارس تنتظر أن يطلع سي عبد السلام كالعادة من قوس باب الفحص سبق صوت التكبير والتهليل الى أسماع القطط والنوارس،قبل رؤية جثة سي عبد السلام محمولة على الأكتاف،إنخرط الفضوليون للتنقيب عن جنس الميت،ذكر هوأم انثى،الأيادي تتسابق لحمله،والنوارس بدورها تتسابق للوقوف على التابوت،والقطط تختلف بين أرجل المشيعين ،هكذا شيع سي عبد السلام إلى مثواه الأخير بمقبرة مرشان،وبعدما إنفض من قراءة ماتيسر عليه من الذكر الحكيم،والدعاء له بالرحمة والمغفرة،وقفت بدورها النوارس والقطط تبكيه على طريقتها