يبدو أن السيد بنكيران قد حسم قراره فيما يخص مشروع إصلاح الصندوق المغربي للتقاعد ، فالرجل أصبح يسابق الزمن من أجل إعطاء الضوء الأخضر لتنزيل ذلك المشروع . وبهذا التوجه الأحادي الجانب يكون السيد رئيس الحكومة قد تخطى قواعد التحاور والتشاور التي تربطه بباقي الأطراف المتدخلة وعلى رأسها المركزيات النقابية التي يبدو أنه لم يعد يلقي لها بالا ولا يضع لموقفها المعارض حسبانا بسبب ضعفها و تشرذمها وتشظي مواقفها . ومعلوم أن السيد بنكيران كان قد أرجأ تنفيذ مشروعه الاصلاحي الخاص بإصلاح صندوق التقاعد إلى ما بعد الاستحقاقات المهنية والجماعية الأخيرة لاعتبارات انتخابوية ، وكان الرجل يمني النفس في تنزيل ذلك المشروع خلال الدورة البرلمانية الربيعية المنصرمة . والآن بعد أن انقضت تلك الاستحقاقات التي حملت نتائجها رسائل تطمين ودعم لحزبه بفضل عدد الأصوات التي حصل عليها ، شرع مؤخرا السيد رئيس الحكومة وبشكل انفرادي في وضع الترتيبات والتدابير الممهدة لتنفيذ مخططه الإصلاحي الذي ستكون له ولا شك في حال إقراره انعكاسات قاسية بالنسبة لمستقبل المركزيات النقابية وتبعات مؤلمة بالنسبة لعموم الموظفين و المأجورين وكذلك بالنسبة للمعطلين خصوصا خريجي المعاهد والجامعات . وواضح أن باب الحوار الاجتماعي الذي كانت المركزيات النقابية تعول عليه للوصول إلى إقرار اتفاقيات تحفظ كرامتها أصبح الآن مواربا إن لم نقل مغلقا لاسيما بعد أن أحال مؤخرا السيد بنكيران مشروع إصلاح أنظمة التقاعد على الأمانة العامة للحكومة وبعد أن سطرت النقابات الأكثر تمثيلية برنامجها النضالي الذي ستستهله بحسب ما أعلنت عنه بتنظيم مسيرة عمالية بالعاصمة الاقتصادية يليها تدشين إضراب عام في القطاعين العام والخاص على الصعيد الوطني . ومما لا ريب فيه أن إقرار مشروع إصلاح منظومة التقاعد سيساهم في وقف نزيف الاختلال المالي والهيكلي الذي أصبح يهدد مستقبل وديمومة تلك المنظومة بحسب المعطيات والبيانات التي دأب السيد بنكيران على الاستناد إليها ورفعها في وجه معارضي مشروعه الإصلاحي . لكن الحقيقة التي ينبغي عدم إغفالها هي أن السيد رئيس الحكومة وفي إطار تنفيذ إملاءات البنك الدولي اختار الحلقة الأضعف و السبيل الأسهل والأقصر لإنقاذ صندوق التقاعد ،إذ أنه عوض أن يلجأ إلى مصادر وحلول أخرى لتحقيق ذلك الغرض ، منها على سبيل المثال لا الحصر إعادة النظر في تعويضات ومعاشات الوزراء و نواب الأمة التي أصبحت تكلف خزينة الدولة مبالغ خيالية تقدر بالملايير من السنتيمات ، وعوض اللجوء إلى فتح باب التحقيق والمحاسبة مع العفاريث والتماسيح المسؤولة عن الاختلالات وعن سوء التدبير والتسيير والتخطيط الذي شهده وضع الصندوق المغربي للتقاعد على مدى الحكومات السابقة ، فإنه آثر أن يشهر شعار" عفا الله عما سلف " ثم توجه نحو الطبقة الوسطى و المستضعفة ليكرهها على التضحية براحتها وأموالها وصحتها من أجل إنقاذ ذلك الصندوق من الانهيار. وكان بودنا أن نبسط تفاصيل التبعات غير المحمودة لذلك الإصلاح المرتقب على أكثر من مستوى ، ولكن حسبنا أن نختزل في هذه الورقة بعضا منها على أمل العودة إلى بسط تلك التفاصيل في ورقة أخرى . فأما بالنسبة للمركزيات النقابية ، فلا شك أن تنزيل ذلك الإصلاح المرتقب لأنظمة التقاعد سيكون قاصما لظهرها ، بل إنه سيضرب العمل النقابي في مقتل ، ذلك لأنه سيجعل تلك المركزيات في نظر الرأي العام هيئات جوفاء شكلية لا حول لها ولا قوة ، وهو الأمر الذي سيزيد من توسيع الشرخ القائم بينها وبين عموم الأجراء و الموظفين الذين كانت شريحة منهم ما تزال تثق في تلك الهيئات و ترى فيها طوق النجاة من ذلك المشروع الإصلاحي المهين والمشين الذي كشفت مختلف التقارير والمعطيات أن الأجراء والموظفين يرفضونه رفضا قاطعا باعتباره يشكل إجهازا على أهم حقوقهم و مكتسباتهم التاريخية . ومن ثمة فإننا لا نبالغ إن زعمنا أن عجز المركزيات النقابية على الدفاع عن تلك المكتسبات ورفعها الراية البيضاء أمام رئيس الحكومة فيما يخص ذلك الملف سيدخل لا محالة العمل النقابي إلى غرفة الموت السريري وسيجعل المراهنين على تلك المركزيات ينفضون من حولها ويغسلون أيديهم منها . وإننا إذ نتوقع للعمل النقابي ذلك السيناريو البئيس فلأن التفريط في أهم مكتسب تاريخي يخص الأجراء والموظفين يعد خطا أحمر من شأن تجاوزه إثارة التساؤل حول جدوى العمل النقابي وحول مساحة التحرك المسموح بها في إطار ذلك العمل . ولنا أن نتساءل في هذا السياق فنقول ، أي دور وأي مستقبل سيكون للمركزيات النقابية بعد إقرار مشروع إصلاح التقاعد الذي يرفضه جمهور الأجراء والموظفين ؟ أي دور وأي مستقبل سيكون لتلك المركزيات في حال تمرير السيد بنكيران لذلك المشروع دون أخذ أي مقترح من مقترحاتها بعين الإعتبار؟ ألا يشكل ذلك استخفافا بالنقابات وإقبارا وتعطيلا للدور المنوط بها ؟ . إن المركزيات النقابية بات عليها أن توحد صفوفها وأن تتحرك في أقرب الآجال وقبل فوات الأوان من أجل إنقاذ نفسها و صون ماء وجهها من جهة والحفاظ على مكتسبات منخرطيها بما يضمن لهم تقاعدا كريما ومريحا من جهة أخرى . أما إظهار العين الحمراء وإطلاق الخطابات اللماعة والتهديدات الرنانة المذيلة بعبارة " نعلن عن استعدادنا لخوض كل الأشكال النضالية ..." فنعتقد أنها أضحت أساليب متجاوزة ، بل هي أشبه بجعجعة بلا طحين و لم تعد تجدي نفعا ولن تسقط حيفا . كما أن اكتفاء النقابات بالإعلان عن الرفض المطلق لمشروع إصلاح التقاعد و الاستغاثة بأحزاب المعارضة وبهيئات المجتمع المدني للتصدي لوصفة إصلاح التقاعد ، كل ذلك لا يشكل في واقع الأمر إلا تنصلا من المسؤولية التاريخية وهروبا إلى الأمام من لدن تلك النقابات . لذلك فإننا نعتقد أن المركزيات النقابية تتحمل مسؤولية جسيمة في هذا المجال ،ومن ثمة فإنها ملزمة بالقيام بالدور المنوط بها بفاعلية واستماتة من أجل ردع خطة بنكيران الإصلاحية المشؤومة و إقرار في مقابل ذلك خطة إصلاحية بديلة شاملة تضمن الحفاظ على حقوق ومكتسبات المنخرطين حتى لا تتعالى الصيحات فيما بعد تطالب بحل المركزيات النقابات بذريعة عدم جدواها . وأما بالنسبة لتبعات تنفيذ المشروع الحالي الخاص بإصلاح أنظمة التقاعد على فئة الأجراء والموظفين ، فلا شك أنها ستكون تبعات جسيمة ومؤلمة مادامت تلك الفئة هي من ستتحمل ثقل ذلك الاصلاح الذي يروم التمديد في سن تقاعدها ورفع نسبة مساهمتها وتعديل قاعدة احتساب معاشها . ومن جانب آخر يمكن القول أن تداعيات تفعيل ذلك الاصلاح ستختلف من قطاع إلى آخر لكنها ستكون أكثر إيلاما بالنسبة للعاملين في بعض القطاعات والمهن التي يعتبر العمل فيها شاقا ومضنيا بالنظر إلى الإكراهات والضغوطات التي تستنزف الطاقات البدنية والنفسية والفكرية . ولا مراء في أن العاملين يتراجع نشاطهم وأداؤهم وإنتاجيتهم في الربع الثالث من حياتهم لاسيما بالنسبة للذين يمارسون أنشطة مهنية تتسم بطابعها الشاق كالتعليم والصحة والأمن ... ولا ريب أن شريحة واسعة من هؤلاء العاملين تصبح بعد تجاوزها الأربعين أو الخمسين مزارا للأمراض المختلفة ،ولنا أن نتصور كيف سيكون الأداء المهني لهذه الشريحة وكيف ستكون إنتاجيتها إذا ما نيفت على الستين ؟ ومن الفئات الإجتماعية التي ستتضرر بشكل كبير في حال تنزيل مشروع إصلاح أنظمة التقاعد نذكر المعطلين وعلى رأسهم حاملو الشهادات العليا خريجو المعاهد والجامعات . ومعلوم أن المندوبية السامية للتخطيط أشارت في تقريرها الأخير إلى أن معدل البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا قد سجل ارتفاعا . وهذا يعني أن تنفيذ الإصلاح بالشكل الذي يتوخاه السيد رئيس الحكومة سيفضي لا محالة إلى الزيادة في معدلات البطالة وإلى تقليص عدد مناصب التوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية بشكل كبير بما سيحرم مختلف القطاعات الانتاجية من استثمار طاقات شابة ذات فاعلية وإنتاجية . ولا يفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى ما تردد مؤخرا من احتمال توجه الحكومة في حال إقرار إصلاح أنظمة التقاعد نحو غلق أبواب التوظيف في أسلاك الوظيفة العمومية لسنوات معدودة ، وهو الإجراء الذي قد يشكل في حال تفعيله انتكاسة أخرى في مجال التشغيل وتعميقا لإشكالية البطالة . إن الإصلاح الحقيقي والمأمول لصندوق التقاعد ينبغي أن يتم في إطار مقاربة تشاركية بين مختلف الفاعلين المختصين وذلك من أجل إيجاد حل توافقي يرضي جميع الأطراف ، ولعل أقرب تلك الحلول إلى الواقعية هو أن يكون ذلك التمديد في سن التقاعد اختياريا وليس قسريا . كما ينبغي أن يفضي ذلك الاصلاح المأمول إلى الحفاظ على المكتسبات التاريخية لعموم الموظفين والمأجورين . ولا تفوتنا الإشارة في هذا السياق إلى نقطة أساسية قد يغفلها الكثيرون ، وهي أن تمديد سن التقاعد إلى 63 الذي يتشبث به السيد بنكيران لن يحل أزمة صندوق المعاشات وإنما سيؤجلها ، ولذلك فالتمديد المقترح من لدن السيد رئيس الحكومة هو في واقع الأمر خطوة أولية مرحلية استدراجية تكتيكية ستعقبها بكل تأكيد خطوة التمديد لسنتين أخريتين في فترة لاحقة ومن يدري فقد يعقبها تمديد ثالث في مرحلة قادمة . لذلك فإننا نؤكد مرة أخرى قبل أن يقع الفأس في الرأس على ضرورة توجيه الجهود نحو بلورة مشروع بديل ومنصف لإصلاح ذلك الصندوق غير اللجوء إلى الحل الأسهل الذي يقترحه السيد رئيس الحكومة . ومن ثمة فإن الأمل يبقى معقودا على عدول هذا الأخير عن إقرار مشروعه الإصلاحي في صيغته الحالية والذي لن يزيد الطين إلا بلة والأوضاع إلا احتقانا وغليانا ، خصوصا إذا وضعنا في الحسبان حقيقة لا يختلف فيها اثنان ، وهي أن الأغلبية الساحقة من الموظفين والمأجورين ترفض مشروع التمديد في سن التقاعد جملة وتفصيلا لما يتضمنه من حيف في حقها وإجهاز على مكتسباتها . ولعل هذه الحقيقة جسدتها العرائض الإلكترونية الرافضة لذلك المشروع و التي تم تداولها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي .فالموظفون والمأجورون ليس بمستطاعهم كما يقولون العمل من المهد إلى اللحد ، إنهم يأملون في أن ينعموا بقسط من الراحة بعد إحالتهم على المعاش و أن يموتوا على أسرتهم وليس في مقرات عملهم . ولعل ما سلف ذكره يسوغ لنا القول بأن إصرار السيد بنكيران على تنزيل مشروعه المجحف الخاص بالتقاعد هو اختيار سيجانبه التوفيق وستكون له انعكاسات وخيمة على أكثر من مستوى ، كما أنه سيهدد السلم الاجتماعي وسيؤجج بلا شك مشاعر السخط والإحباط و الامتعاض و عدم الرضا في نفوس مختلف الأطراف المتضررة .