يعتبر علماء الاجتماع السياسي الانتخابات جوهر الديموقراطية المعاصرة، فهي مناسبة يستعيد فيه الشعب سلطته التي منحها عن طواعية واختيار لممثليه لمدة معينة ليسائلهم عن الحصيلة، فيجدد ثقته فيهم اذا أحسنوا، ويمنحها لغيرهم اذا أساؤوا و خالفوا البرنامج الانتخابي الذي تعاقد معهم على أساسه، كما يرى هؤلاء الباحثون أن الانتخابات مناسبة لتكريس فكرة التداول على السلطة وتدبير الاختلاف بعيدا عن العنف، وانتاج النخب، واكتشاف مواهب سياسية جديدة، وتطوير تقنيات التواصل السياسي، وترسيخ روح الديموقراطية التي تتجذر مع كل محطة انتخابية. هذا من حيث المبدأ العام، أما الواقع فيشكف لنا التمايز الكبير بين الديموقراطيات العريقة والديموقراطيات الناشئة أو الشكلية في تمثل هذه المفاهيم السياسية وخاصة مفهوم الانتخاب. فيبنما تكون الاتنخابات في الديموقراطية الحقة مناسبة لترسيخ شرعية الديموقراطية تكون في الديموقراطيات الهشة مناسبة لترسيخ شرعية الدولة. ويقدم المغرب نموذجا في هذا المجال، اذ تكون لحظة الفعل الانتخابي، ونحن على أبواب انتخابات محلية و جهوية، مقياسا لدرجة حرارة شرعية الدولة، ومن مؤشرات ذلك طغيان هاجس نسبة المشاركة بالدرجة الأولى، اذ تعتبر هذه النسبة مقياسا لمدى شعبيتها وثقة المواطن في نواياها ومصداقية المشاريع الاصلاحية التي تقودها، وهو ما يؤكده التعبئة الكبيرة التي تقودها وسائل الاعلام (وصلات اعلانية في كل المحطات التلفزيونية والاذاعات العمومية والخصوصية والمواقع الاكترونية والفضاءات العمومية ووسائل النقل...) متبعة أصول النظرية السلوكية المعروفة في تقنيات التواصل الاشهاري التي تقوم على أسلوب الالحاح والتكرار والاشراط، من أجل الرفع من نسبة المشاركة الانتخابية التي تعتبر استفتاء على مدى تماهي المجتمع المغربي مع الاصلاحات التي قادتها الدولة بعد حراك 20 فبراير، خاصة أن هذه هي أول انتخابات بعد دستور 2011 الذي تعتبره الدولة انعطافا حاسما في مسلسل الانتقال الديموقراطي، ومن مظاهر ذلك أيضا محاربة كل دعوات المقاطعة بما في ذلك استعمال القوة أحيانا كما حصل مع بعض مناضلي اليسار في مدينة تازة. والمعروف أن العزوف الانتخابي ظاهرة كانت و ماتزال تؤرق بال السلطة منذ الاستقلال بسبب مجموعة عوامل حددتها الكثير من الدراسات السوسيولوجية في رواسب الخوف من العمل السياسي التي خلفتها سنوات الجمر والرصاص في الوعي الجمعي المغربي، وتحكم الدولة المكشوف أحيانا والمستور أحيانا أخرى في كل مفاصل المشهد السياسي، بعد أن انتقلت من مرحلة الدفاع في مواجهة أحزاب الحركة الوطنية( خاصة حزب الاستقلال) في مرحلة أولى، وحزب الاتحاد الاشتراكي في مرحلة لاحقة، الى التدخل في كل تفاصيل الحياة السياسية والحزبية عبر مخططات التشقيق والمحاصرة وخلق الضرات السياسية والتحكم في التحالفات وتهديد النخب السياسية أو اغوائها بامتيازات عديدة... بحيث لم يعد هناك امكان تخيل فعل أو لحظة ما يسلمان من المخزنة، كما يقول الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري. لقد أدى هذا المسلسل الطويل من التحكم والمراقبة الى اضعاف النخب السياسية التي تشكل عماد كل عمل سياسي، حيث تحولت مقرات الأحزاب الى أضرحة سياسية تقام بها المواسم في كل انتخابات، ويتحول فيها اللصوص والمنحرفون وأصحاب المخدرات والسوابق العدلية الى فاعلين سياسيين حقيقيين يوزعون الأوراق ويشرحون البرامج ويعدون بالاصلاحات ويدعون الناس الى التصويت لهذا المرشح أو ذاك، بل ربما يوزع السكر والزيت والمال في حملات يكثر فيها اللغط والدقة المركشية وعيساوة والعمارية والعنف، بينما يعمر هذه المقرات خارج اللحظة الانتخابية الفئران والعناكب. ومن مظاهر اضعاف النخب السياسية أيضا تشابه البرامج الانتخابية، بل المدهش حقا في هذه الحملة أن تتخلى الكثير من الأحزاب عن الاهتمام بنشر برنامجها الانتخابي، بل تكتفي بنشر صور المترشحين اقتناعا منها بأن الذي يذهب الى مكتب الاقتراع يصوت لصالح الشخص أو العائلة أو القبيلة. ومن المشاهد التي صدمتني شخصيا هو مشهد شخصية حزبية كبيرة كانت احدى القنوات الوطنية قد استدعته في اطار دعايتها للمشاركة، وهو يقرأ برنامجه الانتخابي المكون من بضع نقاط من ورقة موضوعة أمامه، في اشارة واضحة عند محللي الخطاب السياسي الى انه لا يؤمن ببرنامجه. بالاضافة الى ذلك هناك رسوخ فكرة التحكم في الخريطة الانتخابية، في الوعي الجماعي المغربي، يزكيها لدى المواطن عودة بعض الأحزاب بقوة الى الساحة السياسية بامكانات ضخمة جدا يصعب على المتتبع بله المواطن العادي الاقتناع بأنها امكانات ذاتية، مع تقيسمات و تقطيعات محسوبة بدقة توصل المرغوب فيه الى المقعد الجلدي المصنوع في الرباط . تقتضي الديموقراطية الحقة انتخابات حرة ونزيهة تتوفر لها حرية الناخب وفعالية الاجراءات التقنية والقانونية والتنافس الحر بين المرشحين بعيدا عن حسابات الدولة الضيقة مما يؤدي آليا الى ارتفاع نسب المشاركة. كما أن نزاهة هذه الانتخابات هي الضامن الأساسي للاستقرار، و واقع الأنظمة الديموقراطية العريقة مثال حي على ذلك، فقد عصفت أزمات اقتصادية خطيرة ببعض الدول كادت تؤدي الى افلاس كامل كما حصل في اليونان، لكننا ما سمعنا بثورة شعبية و لا باضطرابات سياسية لأنها دول محصنة بأسوار قوية من الاسمنت الديموقراطي. بهذا نستطيع السير في طريق الأمان والاستقرار والبناء بدون خوف أو وجل على مستقبل بلادنا.