من أمتع وأفيد الكتب الأدبية التي قرأت، كتاب من ثلاثة أجزاء للأديب المصري الأريب مصطفى صادق الرافعي (1880 1937)، الموسوم ب "وحي القلم"، والذي يُعدُّ آخر ما أنشأه ودبَّجه، وفيه نلمس كما قال تلميذه وكاتب سيرته محمد سعيد العريان النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه، إلى درجة جعله يقرّر وهو الخبير بفكره وأدبه أنه يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية والعقلية والنفسية، ففيه خلقه ودينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه وقاره ومرحه. ومن ثمّ فمن شاء فليقرأه دوم سائر كتبه. وهذا ما جعل سعيد زغلول مثلا يثني عليه أيما ثناء، ويُحلّيه بقوله:" بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم" وفي مقاله المعنون ب "قرآن الفجر"، الذي أنشأه الرافعي قُبيل وفاته بثلاثة أشهر، ونشر فيما بعد في الجزء الثالث من كتابه التُّحفة يعود بنا إلى مرحلة طفولته، حين كان في العاشرة من عمره، وقد جمع القرآن كله: حفظا وتجويدا، ليحدثنا حديثا قلبيا رقيقا عن تجربته الرائقة مع "فن" الاستماع للقرآن الكريم في حضرة والده الذي كان حينها معتكفا في العشر الأواخر من رمضان. ذهب ذات ليلة فبات عند أبيه في المسجد، فلما كان الثلث الأخير من الليل أيقضه للسحور، ومن ثم للوضوء وصلاة الفجر، بينما أقبل والده على قراءة ورده من القرآن. وانظر إليه رحمه الله في صفاء ذهنه، وشفوف فؤاده، يصف لنا تلك اللحظة قائلا:" وكانتِ المساجد في ذلك العهد تُضاءُ بِقَنَادِيلِ الزيت، في كل قنديل ذُبالة، يرتعش النور فيها خافتًا ضئيلاً يَبصُّ بصيصًا؛ كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه؛ فكانت هذه القناديلُ، والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شُقوقٌ مضيئةٌ في الجو، فلا تكشف الليلَ؛ ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسيرٌ ضعيف لمعنًى غامضٍ، يومِئُ إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا أن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور؛ كأنها سِرٌّ يَشِفُّ عن سِرٍّ (...) فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويُحِسُّ في المكان بقايا أحلام، ويَسْرِي حولَه ذلك المجهولُ الذي سيخرج منه الغدُ؛ وفي هذا الظلام النورانيّ تنكشف له أعماقه مُنْسَكِبًا فيها رُوح المسجد، فتَعْتَرِيهِ حالةٌ رُوحانية يَستكين فيها للقَدَر هادئًا وادعًا راجعًا إلى نفسه، مجتمِعًا في حواسِّهِ، منفرِدًا بصفاته، منعكِسًا عليه نور قلبه". ثم يحدثنا بقلب الواله المتيّم باللحظة الجميلة بأنه لن ينسى أبدا تلك الساعة، وقد انبعث في جو المسجد صوت غَرِد رخيم يَشُقُّ سَدفة الليل في مثل رنين الجرس، تحت الأُفُق العالي، وهو يُرَتّل قوله تعالى:" ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ"(النحل: 125 – 128) واقرأ معي النصوص التالية، لأنني فضلت أن أتركه يتحدث بأسلوبه الرشيق المنبعث من شغاف قلبه، لتعرف أولا قدر الرجل الذي اتهمه البعض بأنه "متكلّف لا يصدر عن طبع"، بل "معمي لا تخلص إليه نفس"، ولتلمس ثانيا قدرة هذا الأديب الماهر على نسج صور بهية لما كان يحس به حينها من السمو أثناء سماعه للقرآن مرتّلا ومجوّدا. قال رحمه الله: كان هذا القارئ يملك صوتَهُ أَتَمَّ ما يَملِك ذو الصوت المطرِب؛ فكان يَتصرَّف به أحلى مما يَتصرَّف القُمْرِيُّ وهو يَنوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كلَّ مبلغ يَقْدِر عليه القادر. كان صوته على ترتيبٍ عجيب في نَغَماته، يجمع بين قوة الرِّقَّة وبين رِقَّة القُوَّة، ويَضطرب اضطرابًا رُوحانيًّا؛ كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يَصيح الصَّيْحة تَتَرَجَّح في الجو وفي النفس، وتَتردَّد في المكان وفي القلب، ويَتحوَّل بها الكلامُ الإلهيُّ إلى شيء حقيقيٍّ، يَلْمَسُ الرُّوح. وسَمِعْنَا القرآن غَضًّا طريًّا كأوَّلِ ما نزل به الوَحْي، واهتَزَّ المكانُ والزَّمانُ كأنَّما تَجَلَّى المتكلِّمُ - سبحانه وتعالى - في كلامه، وبدأ الفجر كأنه واقفٌ يستأذن الله أن يضيء من هذا النور. وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحِيَتِ الدنيا التي في الخارج من المسجد، وبَطَلَ باطِلُها، فلم يبقَ على الأرض إلا الإنسانيةُ الطاهرة، ومكانُ العبادة؛ وهذه هي معجزة الرُّوح، متى كان الإنسان في لَذَّةِ رُوحِه، مرتفعًا على طبيعته الأرضية. وأنا أستمتع بقراءة هذا المقال لم يفارق مخيلتي ولا أذنيّ صوتان شجيان أكثر ما يصدق عليهما الوصف السابق؛ وهما الشيخ محمد رفعت والشيخ يوسف البهتيمي. أما كامل يوسف البهتيمي (1922 1969) فيعد أحد أبرز القراء المصريين. تتلمذ على يد الشيخ محمد الصيفي، الذي تبناه واصطحبه في حفلاته، وأخذ بيده من قريته التي نشأ بها، واستضافه في بيته بالقاهرة، فعرف طريق الشهرة، حتى التحق بالإذاعة سنة 1946، وهو ما كان يعدّ في حينها شرف ما بعده شرف. ولمن شاء تذوقه أن يستمع للسور التالية: مريم والإسراء وإبراهيم وفصّلت مجودة بصوته الرخيم. أما محمد رفعت (1882 1950) فيكفيه فخرا وشرفا أن يذكر ويستذكر كلما حل شهر رمضان الأبرك، وذلك بسبب تسجيله للآذان بصيغة غاية في الروعة والجمال، والذي تبثه أغلب القنوات والإذاعة المصرية الأكثر انتشارا عند وقت المغرب. ويكفي هنا أن نستمع لشهادة أحد دهاة الموسيقى العربية المعاصرة، وهو محمد عبد الوهاب، وهو يستحضر ذكرياته مع الشيخ رفعت لنعرف جلال قدره وجمال صوته. قال: "نشأت بيني وبين الشيخ رفعت صداقة عميقة، فكان يدعوني لأسهر معه في بيته، وعندما كنت أستمع إليه وهو يقرأ القرآن الكريم أتحوّل من صديق إلى خادم أجلس تحت قدميه، وأنا أستمع إليه في خشوع، فقد كنت أحس أنه بين يدي الله فعلا"، ويضيف في سياق آخر بأن "مستمعي الشيخ في أوائل الثلاثينات كانوا يكادون يفقدون عقولهم طربا مما يأتي به في تلاوته". يقول بعض العارفين به وبقراءته بأن طريقته كانت تتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة القرآن الكريم وإمكانية تجلي بواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه لا بأذنه فقط، والتأثير في المستمع. كان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والبسمله، والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته، فهو خفيض في بدايته، ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالبا "عاليا"، لكن رشيدا يمس القلب ويتملكه. كان يهتم كثيرا بمخارج الحروف، رغبة منه في أن يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقا جميلا رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، وكان صوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة، وكان يستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف. ولكن مشكلة المستمع في وقتنا سيجد صعوبة كبيرة في الغوص في أعماق هذا الصوت الكامل كما يسميه أهل الموسيقى إلا أن يكون ذوّاقا عشّاقا؛ ذلك أن أغلب تسجيلاته مشوشة، باستثناء بعض قراءاته التي سلمت من ذلك، مثل سورتي مريم والكهف