سنة 1958 بمدرسة "البوغاز" ومن غرائب الصدف يجلس في صف الأول أخ الوالدة، وفي أخر الصف في نفس الفصل يتربع على أخر الطاولة الوالد رحمة الله عليه. لم يعمر الوالد كثيرا بمقاعد مدرسة البوغاز المطلة على هضبة شاطئ "بوقنادل" خصوصا أن فترة الستينات كانت السياحة بطنجة في بداية أبجديتها، وقلة هم من يعرفون فك طلاسيم اللغات الأجنبية، ومن شرفة مدرسة البوغاز سيفتح الوالد عينيه لأول مرة على البواخر وهديرها و من بداخلها (السياح). في الستينات رست بميناء طنجة باخرة شراعية على ظهرها سياح من الجنسية الإنجليزية، تصميم الباخرة وهيئتها أثارت فضول الوالد من داخل حجرة الدرس، ومن نافذة الفصل وبينما الأستاذ ميمم وجهه نحو السبورة يشرح درسه بكل إخلاص، ومع إطلاق الباخرة لزفرتها الأولى معلنة لركابها وصولهم لمرفأ المدينة ورسوها بنجاح، وإيذانا للمشرفين على الميناء بتوثيق حبالها بحذاء الأعمدة الحديدة المثبتة بباطن ارضية الميناء، تسلل الوالد كالشعرة من العجين من القسم بدون أن يثير فضول زملائه متبوعا باثنين من مريديه صوب الميناء لاكتشاف "الباركو". فضول الوالد مع الباخرة ونهمه لإكتشاف من وما بداخلها، سيوقعه في شباك السياح والسياحة، فابتسامته البريئة الدائمة المرسومة على وجهه بدون مقابل منذ نعومة أظفاره إلى مماته كانت بمثابة المفتاح السحري لقلوب السياح والناس عامة. مع إكتشاف الوالد لعالم "السياحة" صار كثير الغياب عن المدرسة، ولايحضر إلا ناذرا وإن حضر فقط من باب ترقب حركة السفن وساعة رسوها وإبحارها من و إلى الميناء بحيث كان القسم عنده بمثابة غرفة عمليات. كان الوالد شغوفا بالمسرح وعضوا نشيطا بفرقة دعاة الفن لمؤسسها محمد المير البرنوصي وأحد أعمدتها والطفل المدلل للفرقة والويل جزاء السنمار لمن يغير مزاجه، فكان الوالد يحظى بحظوة والقرب لدى رئيسها والسبب دائما صغر سنه و قامته المتوسطة وإبتسامته العريضة وبدون مقابل "لانريد منكم جزاءا ولاشكورا". علاقة الوالد بالمسرح كانت عكس علاقته بمدرسة البوغاز، فلم يتخلف قط عن الحصص التدريبية بمقر "الإتحاد الإشتراكي" الكائن بسوق الداخل والذي كان تقام فيه التداريب المسرحية قبل عرضها بمسرح سرفاطيس، وإذا تزامن توقيت عرض مسرحي مع حصة دراسية كان الوالد يقدم الوقوف على خشبة المسرح و رسم الابتسامة على الوجوه الحاضرين. في سنة 1964 سيصعد الوالد على خشبة مسرح سرفاطيس، وسيختاره محمد المير البرنوصي لأداء دور البطولة في مسرحية بعنوان "لست خائنا" و رغم صغر سنه، لن يخون الوالد الدور الذي أسند إليه، ومن على خشبة مسرح سرفانطيس، وبصوت رجولي، كقائد لجيش لاير أوله من أخره، وسط معركة فارقة يثبث فيها جنوده، و وسط ذهول الحاضرين، شرع يذكر المقاومين والحضور والعلماء والأعيان بالبطولات والأمجاد التي صنعها المغفور له السلطان محمد الخامس وما عانه وقساه في المنفى، مغلظا القول في مواطن التي تتطلب الشدة بضرورة الالتفاف حول السلطان، والحفاظ على بيضة الاسلام وحصون الأمة، وما إن إنتهى من قرع أذان الحاضرين بضرورة التشبث بوحدة الأمة، وقف الجميع تصفيقا وإعجابا بالطفل المدلل فيما رئيس الجمعية محمد المير البرنوصي بقي مدهوشا من جرأة الوالد وإتقانه لدور قائد الجيش. بقي الإشارة ان من بين الحضور عبد الله كنون و والي طنجة سنة 1964 عبد اللطيف بن جلون.