تتحفنا هوليود بين الفينة والأخرى بفيلم عملاق يثير الاهتمام من هول ما أنفق على إنتاجه من مبالغ وما أحاط به من دعاية إعلامية تكلف أحياناً ما يكلفه إنتاج الفيلم نفسه. فيلم "2012" واحدٌ من هذه الأفلام الضخمة إذ بلغت تكلفته 260 مليون دولار حسب مجلة "فوربز" Forbes الأمريكية في عددها الصادر في 12/11/2009في مقالة بعنوان: "كارثة على شباك التذاكر"! وقد أطلق الفيلم في الولاياتالمتحدة في 13/11/2009، وحول ذلك التاريخ في أماكن أخرى حول العالم، بيد أنه لم يكن كارثة على شباك التذاكر على الإطلاق. فقد بلغت مبيعات تذاكره بعد أسبوعين فقط من إطلاقه حوالي 500 مليون دولار، ربعها تقريباً في الولاياتالمتحدة، والباقي في بقية العالم، كما ذكر أحد مواقع الإنترنت المتخصصة برصد مبيعات تذاكر الأفلام. فيلم "2012" يرجع اسمه للعام 2012 م، حيث يفترض أن نبوءة لحضارة المايا المنقرضة في أمريكا اللاتينية تزعم أن العالم سوف ينتهي في 21/12/2012، وهي النبوءة التي يشكك كثيرٌ من المتخصصين بأن حضارة المايا تتبناها أصلاً. وهذا لا يهم كثيراً، لأن موضوعة نهاية العالم كما نعرفه، والقيامة، هي الفئة التي ينتمي إليها هذا الفيلم. وقد أسهم رولاند أمريك Roland Emmerich مخرج "2012" بالعديد من الأفلام المعروفة منذ أواسط التسعينات، وقد كان "10000 قبل الميلاد" فيلمه السابق ل"2012"، وهو فيلم أطلق عام 2008 يتناول الكرة الأرضية وحالة الإنسان في عصور ما قبل التاريخ بشكل غير دقيق أيضاً. ولكن أمريك برز بالأخص في الترويج لحبكات نهاية العالم... وخلاصه، في عدد من العناوين المشهورة منها فيلم "يوم الاستقلال" Independence Day عام 1996، وفيلم "غودزيلا" عام 1998، وفيلم "يوم ما بعد الغد" The Day After Tomorrow عام 2004، وغيرها. وفي كل تلك الحالات كانت تتعرض الكرة الأرضية لكوارث طبيعية لا يمكن تصورها، أو لهجمات من كائنات من الفضاء الخارجي أو من كائنات غريبة تسبب دماراً شاملاً لتخرج من المحنة الرهيبة في النهاية قلةٌ منتصرةٌ يمكن أن نسميها "الشعب المختار"... المختار بالصدفة أو بقدراته الخاصة، لكنه مختار بجميع الأحوال. وتلك القلة فقط يحق لها أن تعيش، وأن تحكم، وأن ترسم مصير العالم، وهي فكرة تتجاوز في نخبويتها البطل الهوليودي الفرد الذي ينقذ الجماعة. فهل من أبعاد سياسية أو توراتية هنا؟! وهل يأتي تكريس هذه العقيدة النخبوية من فراغ؟! لا شك أن الموضوعات الغريبة والخيالية تتيح للمشاهد الهروب من واقع قد يجده مملاً، وهو أمرٌ تحاول هوليود أن تستثمره للحد الأقصى. ولذلك يأتي هذا النوع من الأفلام ليملأ فراغاً تجارياً، أو ليقدم خدمةً ترفيهية بالمعنى الحرفي للكلمة. وحق الإنسان بالترويح عن نفسه لا نجادل فيه، لكن البعد التجاري المحض لا يجوز أن ينسينا أيضاً أن الفيلم الخيالي يمكن أن يمثل هروباً من الواقع، وليس فقط من الملل، وأنه قد يكون وسيلة لخلق عالمٍ أخر لا يحتاج فيه الإنسان للتفكير بالتغيير السياسي أو الاجتماعي، عالم يحصل فيه على الإشباع النفسي والمعنوي في عالمه الخيالي فحسب. بجميع الأحوال، لا يستطيع الفيلم الخيالي أن يجتذب المشاهد فقط بالغرابة وقوة الخيال، بل لا بد له أن يمس أوتاراً حساسة في أعمق أعماق الإنسان، وأهم هذه الأوتار هو بدون شك غريزة البقاء. ومن هنا فإن تعرض بطل أو أبطال الفيلم لخطر وجودي قد يصبح الصنارة التي تلتقط المشاهد وتسحبه إلى حالة التماهي والتماثل مع شخصيات الفيلم. ويمكن أن نقول على هذا الصعيد أن فيلم "2012" أثار ملل المشاهد من كثرة ما وضع شخصيات فيلمه في حالة خطر وجودي كل دقيقة أو دقيقتين، وأقل من ذلك في بعض الحالات، إلى درجة تخرِج الإنسان من القدرة على الانغماس في جو الفيلم، إذ تضطره للتفكير تكراراً بلا عقلانية ما يجري وتدفعه إلى التأفف. وقد قدم فيلم "2012" عامةً شخصياتٍ مسطحةً وحواراتٍ غبيةً وكليشيهات مبتذلةً للعلاقات الاجتماعية ليرمي بثقله الفني بالكامل خلف التأثيرات البصرية الخاصة، وعلى الصورة. فالفيلم يمثل تتابعاً للقطات بصرية مبهرة أنتجتها التكنولوجيا السينمائية المتطورة ومئات ملايين الدولارات. فهو فيلم للانطباعات فحسب، بشرط أن تعطل عقلك تماماً. فهو عبارة عن صور باهرة متتابعة بلا معنى درامي فعلياً على طريقة الفن للفن.. أو للمال... أو لتسطيح العقل، لولا... لولا أن أي فن، مهما كان تجارياً أو مبتذلاً، لا بد له أن يعكس الواقع ولو بطريقة مقلوبة أو مشوهة. فلا بد أن يعكس الفن علاقات القوة السائدة في المجتمع، أو في العالم في حالة "2012"، وأن يعكس القيم والمفاهيم التي يتبناها صانعو هذا الفيلم. وبعد أن يدرك البيت الأبيض أن العالم قادم على نهاية لا محالة، يُعقد اجتماع لرؤساء دول مجموعة الثمانية G-8 يتخذ فيه هؤلاء قراراً ببناء أفلاك عملاقة، أو سفن جبارة، مثل فلك نوح، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشرية. وفكرة أن مجموعة الثمانية هي صاحبة القرار العالمي، وهي المعنية بالتصدي للمخاطر التي يتعرض لها العالم، مع إعطاء الأولوية فيها للولايات المتحدة، هي فكرة تكرس مفهوماً محدداً للعلاقات الدولية طبعاً. وقد اتُخذ قرار بناء هذه الأفلاك الضخمة، بأحدث ما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا البشرية، في الصين، وفكرة أن عملية البناء تتم في الصين يعكس الدور الاقتصادي والصناعي المتنامي للصين، وهو الأمر الذي يخيف الولاياتالمتحدة كثيراً. وقد جرت عملية البناء في منطقة التبت، قرب جبال الهمالايا، وقد تم التركيز على الكهنة البوذيين في الفيلم كثيراً، وهم طبعاً معارضون بشدة للحكم الصيني، ويدعو بعضهم للانفصال، وبالتالي يمثل تبني الولاياتالمتحدة لهم نقطة احتكاك قوية مع الحكم في الصين. وبالتالي فإن إبراز التبت والكهنة البوذيين لا يأتي على الأرجح من قبيل الصدفة. وقد تم اختيار 400 ألف شخص من حول العالم ليعمروا الكوكب بعد دماره، ويفترض أن اختيار هؤلاء تم على أساس تميزهم جيناتهم الوراثية، ولكن أيضاً تم بيع المقعد الواحد في "فلك نوح" الحديث بمليار يورو (واختيار اليورو ربما يعكس الأصل الألماني للمخرج!)، للمساعدة بتمويل المشروع. المهم أن فكرة "الفرقة الناجية" المطروحة بهذه الطريقة تكرس عبادة التفوق سواء بالقدرات الخاصة أو بملكية رأس المال، والصراع الوحيد الذي يُقدم (بشكل سطحي أيضاً) في "2012" هو الصراع بين من يملكون التميز الفردي، ومن يملكون رأس المال، وكذلك يُطرح التناقض بين البيروقراطيين والعلماء، وليس بين مشروع للخلاص النخبوي من جهة، ومشروع للخلاص الجماعي من جهة أخرى مثلاً، لو كانت حكومات الG-8 معنية بالتخطيط لإنقاذ البشرية فعلاً... بدلاً من إخفاء المعلومات عن الناس وبناء الأفلاك في السر لإنقاذ القلة ليتركوا بقية البشرية لمصيرها. وهنا لا توجد في الفيلم أية شخصية تمثل نقيضاً حقيقياً لما هو سائد. ونشير أيضاً أنه لم يتم اختيار عرب بين "الشعب المختار" إلا من بين شيوخٍ مستعدين لدفع المليار يورو للمقعد الواحد. ولا نرى عرباً بين الأربعمئة ألف إلا شيخاً يحط على الفلك مع حريمه المنقبات، وهذه لطشة مفضوحة ضد العرب من مخرج يهودي مثل رولاند أمريك تذكر عدة مواقع على الإنترنت أنه من أكبر الداعمين ل"حقوق اللواطيين" في هوليود (كما يستطيع أن يتأكد من يرغب بالبحث على الإنترنت). وفي اللحظة الأخيرة، يختار رئيس أمريكا الأسود (أوباما) أن لا يصعد على الفلك ليبقى مع شعبه في اللحظات الأخيرة ليواجه نفس مصيره، وكذلك يقرر أن يفعل رئيس الوزراء الإيطالي (بيرلسكوني حليف الولاياتالمتحدة؟). وتلك ليست رسالة سياسية طبعاً إلا قليلاً... وخلال تدمير الرموز المعمارية المعروفة عالمياً، من البيت الأبيض إلى برج إيفل في باريس، يتم تركيز الكاميرا بالأخص على تدمير نصب "المسيح المخلص" في ريو دي جانيرو في البرازيل، كما يتم تدمير الفاتيكان، في حقد واضح على الكاثوليكية بالذات، ولا نرى شيئاً يهودياً يتعرض للتدمير بالمقابل، ولكن رولاند أمريك يقول في مقابلة على الإنترنت بعنوان "المكان الوحيد على الأرض الذي لم يدمر في 2012" The One Place on Earth not Destroyed in 2012، أنه أراد أيضاً أن يدمر الكعبة في مكة في فيلمه أيضاً، لكن شريكه بكتابة الفيلم هارالد كلوسر أقنعه بالعدول عن الفكرة لكي لا تصدر فتوى تبيح هدر دمه!