لا يمكن تفسير الموقف الأوروبي الموحد مع الرباعية الدولية القاضي بمنع إبحار أسطول "الحرية 2" إلى قطاع غزة، وتكليف الجهات اليونانية المختصة بعدم السماح لقطع الأسطول بمغادرة شواطئها، وعدم التهاون مع منظمي الحملة والقائمين عليها، في حال تحديهم للقرار وتسييرهم السفن بما تحمل إلى شواطئ غزة، سوى أنهم يحملون الحقد والكره لسكان قطاع غزة، ولا يحبون لهم الخير، ولا يرغبون أن يروا سكان هذه البقعة الجغرافية الصغيرة وقد تخلصوا من الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم، وانعتقوا من حالة الحرمان التي يعانون منها، إذ أن قرارهم بالمنع يعني حرمان الأطفال والمرضى الذين كانوا ينتظرون الأسطول، ويعولون كثيراً على ما يحمل من أدويةٍ وعلاجٍ وألعاب، في التخفيف من آلامهم، وفي شفائهم من أمراضهم، وهو قرارٌ يتنافى مع كل القيم الإنسانية والمعاني النبيلة، ولا ينسجم مع دول متحضرة وشعوب متمدنة، ودعاة حقوق الإنسان، وحكوماتٍ تدعي حرصها على الحرية والعدالة ومحاربة الظلم والجور والاضطهاد، فليس من الخلق في شئ حرمانُ شعبٍ بأكمله من سبل العيش الكريم، ومعاقبة شعبٍ بأسره بقرارٍ دولةٍ ظالمة، رأت أن تحرمه وتحاصره وتعاقبه، علها تنجح في تركيعه وكسر إرادته، وإجباره على القبول بما لا يقبل. الحقيقة هي أن الدول الأوروبية وأطراف الرباعية الدولية قد خضعوا جميعاً للضغوط الإسرائيلية، واستجابوا لشروطها، ونزلوا عند رأيها، وقبلوا تفسيرها، واعتمدوا روايتها، واتهموا القائمين على الحملة بأنهم إرهابيين، وأنهم يريدون مهاجمة الجنود الإسرائيليين والاعتداء عليهم بماء النار، وهم يعلمون أن سفن الأسطول لا تحمل غير المعونات الغذائية والطبية لسكان قطاع غزة، وأنها لا تحمل مواد ممنوعة، ولا مواد خطرة، فلا سلاح فيها ولا مواد حارقة، وليس فيها شئ مما لا يبيحه القانون الدولي والمحلي لأي دولةٍ أخرى، إذ كل ما فيها مساعدات إنسانية، وأدوية وعلاج لأمراضٍ مستعصية، صنعها العدوان والحصار الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، وفاقم من تداعياته الخطيرة على السكان صمتُ دول العالم عن السياسة الإسرائيلية، وعجزها عن محاسبتها والضغط عليها لثنيها عن ظلمها واعتداءاتها. لعله من الخطأ أن نعتقد أن المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية تختلف كثيراً عن الموقف الأمريكي، وأن تحالف الولاياتالمتحدةالأمريكية مع إسرائيل أقوى بكثير من تحالفها مع دول أوروبا، وأن الدول الأوروبية أقرب إلى العرب، وأنها تتفهم طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، وتجد عدم منطقية إسرائيل في مواقفها من الحلول المطروح لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن الأحداث جميعها أثبتت أن السياسة الأوروبية لا تختلف كلياً عن السياسة الأمريكية، وهي إن لم تكن تبعاً وتقليداً للسياسة الأمريكية، فإنها تنتهج سياستها الخاصة الداعمة لإسرائيل، والضامنة لها التفوق والقوة والتميز، والحريصة على مصالحها وسلامة مواطنيها. دعت الرباعية الدولية المتضامنين الدوليين إلى انتهاج وسائل جديدة في توصيل المساعدات والمعونات إلى سكان قطاع غزة، وإلى التعاون مع الدول والحكومات لضمان إيصال المساعدات، وعدم الانجرار إلى وسائل وسبل قد تلحق الأذى بإسرائيل، أو تعرض سيادتها للخطر، أو تحرجها مع الدول الغربية التي لها رعايا مشاركين في الأسطول، بما لا يحرج إسرائيل، ولا يضعها في موقفٍ جديد تكرر فيه أزمتها مع الأسطول الأول، الذي خلق لها أزمة كبيرة مع الحكومة التركية، جراء قيام جنود بحريتها بقتل عددٍ من المتضامنين الأتراك الذين كانوا على ظهر السفينة التركية "مرمرة"، فبدت أوروبا وكأنها تحاول حماية سمعة الحكومة الإسرائيلية، ومنع أي عمل قد يكشف صورتها الحقيقية، ويظهرها أمام المجتمع الدولي بأنها دولة دموية، وأنها عدائية وغير إنسانية، ولا تحترم المشاعر الإنسانية ولا تقدر جهود الإغاثة والمساعدات الدولية، رغم أن دول أوروبا تدرك أن أفعال إسرائيل المشينة كثيرة ومستمرة، وهي لا تراعي في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني أي قوانين دولية أو شرائع سماوية، أو قيم إنسانية ومفاهيم حضارية، فهي مطمئنة إلى أن المجتمع الدولي سيتفهم دوافعها، وسيقبل مبرراتها، وسيغفر لها أي سلوك تجاه الفلسطينيين، ولن يوجه لها النقد أو الاحتجاج، ولن يقوم بتوبيخها أو إدانتها، ولن يسهل إصدار قراراتٍ دولية ضدها، بل سيقوم بالعكس من ذلك، ضغطاً على الفلسطينيين ليكفوا عن إزعاج إسرائيل والإساءة إليها، ويتوقفوا عن إحراجها وإبراز صورتها وهي تحمل العصا الغليظة ضدهم. الموقف الأوروبي موقفٌ مهين ومشين، ولا يمكن القبول به أو السكوت عليه، ويجب ألا نسمح لها بتمريره أو فرضه علينا، فنحنُ أمةٌ نحب نصرة المظلوم، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف، ولا نقبل أن يكون جزءٌ من شعبنا مضامٌ ومحاصر، ومظلومٌ ومعاقب، فلا ينبغي أن يقف أحدٌ في طريق نصرتنا لبعضنا، ومساعدتنا لأهلنا، فكما أن أوروبا منحازة إلى إسرائيل، ومتعاونة معها، وتمدها بكل ما تحتاجه من أدوات القتل وأسباب العيش، فإننا أولى أن نساعد بعضنا البعض، وأن نساند أنفسنا بما نملك، وبما نعتقد أنه يساهم في تخفيف العبء عن سكان قطاع غزة، ويرفع عنهم الضيم والظلم والحيف، ويحقق لهم بعض أسباب العيش الكريم. الموقف الأوروبي من أسطول "الحرية 2" يكشف عن الانحياز الغربي الأعمى المقيت لإسرائيل، ويؤكد على متانة وصلابة تحالفهم معها، ويؤسس على قواعد العلاقة التاريخية معها، بأن مصالح إسرائيل مقدمة على أي مصلحة، وأن أمنها وسمعتها أهم لديهم بكثير من معاني الحرية والحضارة وحقوق الإنسان وغيرها مما تتشدق بها وتتفاخر وتتباهى، وتدعي أنها تمثله وتحميه، وتدعو إليه وتحرص عليه، ولكن الحقيقة أن أوروبا تكيل بمكيالين، وتؤمن بسياسة ازدواجية المعايير، فالحق لديها وفقاً لما تهوى إسرائيل وتتمنى، فأوروبا جزءٌ من الحصار الإسرائيلي – الأمريكي المفروض على قطاع غزة، وهي تتحمل تاريخياً وأخلاقياً ورسمياً المسؤولية عن قيام إسرائيل باحتلالها لفلسطين وتشريدها لشعبها، وطردها أهلها من بيوتهم وديارهم، وقرارها الأخير بمنع المساعدات والمعونات استمرارٌ لسياستها، وتأكيدٌ على تحالفها وإخلاصها لإسرائيل ومصالحها. د. مصطفى يوسف اللداوي