صراع المشروعية في مرحلة عصيبة من تاريخ بلادنا كانت منظومة الحكم تنبني على سياسة السلطة، أي على التحكم، والقمع ،والشطط، واستغلال النفوذ..وكانت هذه السياسة تستجيب للتوجه العام للنظام باعتباره اختيارا يترجم أسلوب الحكم القائم على استعمال العنف بكل مستوياته ، مع ما يستتبع ذلك من اعتماد استراتيجيات الترهيب،والتخويف، وتعطيل المسار الديمقراطي والتنموي...ولم يكن هذا التوجه معزولا عن السياق السياسي العام الذي كان موسوما بالتوتر بين قوى المعارضة والقصر...وكان الصراع حول المشروعية ، من الطرفين، صراعا قويا استلزم كثيرا من الحكمة لتجنيب المغرب منزلقات الانهيار المؤسساتي. فكانت قضية الصحراء والإجماع الوطني، ثم أطروحة النضال الديمقراطي، فالمسلسل الديمقراطي، ثم التناوب التوافقي ، ، و المصالحة والإنصاف. وهي مصالحة سياسية وحقوقية جنبت المغرب الدخول في أنفاق المجهول قبل الربيع العربي بسنوات....لم يتحقق كل شيء ، لكن ، ربما ، تحقق الأهم...ترويض العملية الديمقراطية في اتجاه البناء التنموي، وتأسيس قواعد الصراع الديمقراطي، وثقافة التناوب على الحكم....وفي هذا المسار الطويل، والصعب، لم تكن الحركة الإسلامية إلا ورقة تتحرك في اتجاه تقويض الحركة الديمقراطية والهجوم على معاقل اليسار. 20فبرايروالخروج بأقل الخسائر وجاءت 20 فبراير، فكان الزمن المغربي، منفلتا بذكاء نخبه الوطنية والديمقراطية عن السقوط في ما ستسقط فيه بلدان شقيقة لم تجرب وصفات التعدد الحزبي والنقابي، والتناوب السياسي، والمصالحة الوطنية .فخرج دستور 2011، خروجا ذكيا بأقل الخسائر الممكنة، ما بين التراث الدستوري القديم الذي يرتكز على فلسفة الدساتير الممنوحة منذ 1962، ومتطلبات المرحلة الراهنة التي استعجلت وضع المغرب على سكة تجربة دستورية جديدة ستحمل الإخوان المسلمين إلى الحكم عبر انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. انتخابات وضعت هندستها الداخلية والخارجية بعناية فائقة ، ربما لم يعرف تفاصيلها حتى أولئك الذين كانوا يهددون بقلب الطاولة على النظام عشية إعلان النتائج. إلى أن أغرقوا فوزا خارج توقعاتهم ولغة أرقامهم. فانسحبت العدل والإحسان مما سمي حراكا، وظل رفاقنا يحلمون بالملكية البرلمانية...فدخلت البلاد لتجربة جديدة أصبح الجميع يردد معها مسألة " تنزيل الدستور"....فصعد الإسلاميون إلى الحكم صعودا خارج ما كانت تشتهيه الدولة المخزنية القديمة التي فكرت ذات يوم في صناعتهم لفرملة الديمقراطية نفسها، وإفشال التقاطب الديمقراطي.. الوصفة المغربية قد لا تهمنا بعض التفاصيل في هذا المقام. لكن منذ أن منح الأمريكيون سعد الدين العثماني جائزة " المسلم الديمقراطي" سنة2006، وهو الرجل الذي سيصبح وزيرا للخارجية في حكومة بنكيران، كنا نعرف بأن العمليات الانتخابية ستكون تحت مجهر الأمريكان. والإخوان المسلمون أنفسهم يعرفون ذلك،وعندما تحرك الشارع العربي، أو عندما تم تحريكه، كانت الوصفة المغربية جاهزة للتجريب.إنها وصفة تحت الطلب، وتحت ضغط المرحلة. فالرجل الذي ظل يقايض موقعه الجديد مقابل ربح "المشروعية" التي لم ترسم له بالشكل الذي جاءت به رياح " الخريف العربي" هو بنكيران سليل الحركة الاخوانية العالمية التي حملته للحكم في إطار موازين قوى جهوية، واقليمية، ومحلية لم تكن لتحمله إلى السلطة بالسيناريو الذي عاشه المغرب لو لم تعرف المنطقة ما عرفته من تحولات متسارعة. "مشروعية" انفلتت ربما حتى من أولئك الذين خططوا منذ سنوات لترويض الحركة الإسلامية وفرملة مسار الحركة الديمقراطية. فجاء ما سمي " بالربيع " الذي سرعان ما سيتحول خريفا. ولم تكن الظروف السياسية العامة تسمح بسيناريو مغاير للسيناريو الذي تم توضيبه لجر إخوان الإصلاح والتوحيد إلى الحكم. مع دستور جديد لم يهندس للملكية البرلمانية ( ربما لأن واضعيه يعرفون أكثر من غيرهم بأن شروطها المرحلية غير جاهزة) بل لدستورهندس لبياضات كثيرة ستجر النخب إلى الصراع الجديد حول التأويل الديمقراطي للوثيقة الدستورية التي ستحمل في فصلها الأول ركنا حاسما وهو " الاختيار الديمقراطي"، وكثيرا من المواد الحقوقية التي ستفتح الصراع السياسي، والثقافي، والمجتمعي على مصراعيه بين تصورين مختلفين لمنظومة الدولة، تصور سياسي سلفي يقوم على حلم الدولة الدينية، وتصور نقيض يقوم على مشروع الدولة المدنية العصرية. الأصالة والمعاصرة في عمق الصراع الجديد تبدو الصورة اليوم أكثر وضوحا بالنسبة لكل الذين شككوا في مشروعية البام، أو على الأصح لم يفهموا فكرة تأسيسه.أو ظلوا يرددون بأنه حزب بدون مشروعية سياسية أو إيديولوجية. قد تظل بعض التفاصيل لحكم التاريخ. لكن جمهور السياسيين اليوم، و عموم الباحثين، ورجال الإعلام، حتى وان اختلفوا مع البام، قد لا يجدون عناء للإجابة عن سؤال المرحلة..ماذا لو لم يكن حزب الأصالة والمعاصرة موجودا في المغرب؟، وكيف كان المشهد السياسي سيكون في غياب البام؟ وفي ظل حركة سياسية دعوية تدعي اعتماد " المرجعية الإسلامية" و لا تخفي نواياها في اكتساح البرلمان، والتلويح المستمر بقلب الطاولة على البلاد إذا لم ينجحوا في الانتخابات؟. وبقدر ما ندعو أولئك الذين يروجون لما يفيد بأن بنكيران وحزبه أبناء المخزن، وهم صناعة المخزن، وبالتالي لا خوف على البلد من حكمهم، ولا من حزبهم، بقدر ما ندعوهم للاحتياط من هذا النوع من الطروحات، بقدر ما نسائل مدى تشبع هؤلاء بفكرة الديمقراطية ، وبالمبدأ الدستوري المرتبط ب" الاختيار الديمقراطي". ولأن السياسة تخشى الفراغ، كالطبيعة تماما، لنطرح السؤال بصيغة جديدة..لماذا يخشى إخوان بنكيران خصومهم السياسيين ، ولماذا ينصبونهم أعداء لهم؟.وفي مقدمتهم اليوم حزب البام. إن الجواب يرتبط أساسا بتمثل الإسلاميين للعمل السياسي . حيث لا يعتبرونه مجالا لصراع المشروعيات و الإيديولوجيات المختلفة ، بل هو مجال لما يسمونه ب" التدافع" . والتدافع مفهوم مرجعي في الإيديولوجية الاخوانية يتأسس على إزاحة وتنحية كل الأطياف والمجموعات المختلفة، بكل الوسائل، بما في ذلك استعمال العنف. هو شبيه بمفهوم " العنف الثوري" في بعض المرجعيات اليسارية. وعندما يشتكي إخوان بنكيران مما يسمونه ب " التحكم" فهو إعلان إيديولوجي عن عدم قبول المنافسة السياسية والتي قد تنتهي بالهزيمة. غير أن الفكر الاخواني لا يقبل الهزيمة عبر صناديق الاقتراع لأن أصوله المرجعية ترتبط ب " الغلبة" و" الفتح" و" التكسير" و " الغزو" و"الاجتياح" و"التمكين"...وبقدر ما يعكس هذا المفهوم حالة نفسية ترتبط أساسا بسيكولوجية الإسلام السياسي الذي يعلن نفسه مشروعا قاهرا للآخرين ، فكيف له أن يكون هو المقهور أو المنهزم، وهو الذي يعلن في السياسة تبنيه للغلبة والاجتياح باسم الدين. وعليه، كيف يقبل " الحزب الإسلامي" الهزيمة الانتخابية، وهو المتماهي مع الدين في السياسة ؟.. هذا الخلط الخطير، القائم على استغلال المشترك الديني في التعبئة للسياسة بالمفهوم الاخواني قد تصل إلى حد الدعوة إلى إلغاء الأحزاب وحلها كلما كانت منافسة لهذا المشروع. فنفهم إذن لماذا ينتشي الإخوان المسلمون بالانتصار عبر صناديق الاقتراع عندما تكون في صالحهم، ولماذا لا يعترفون بالهزيمة عندما تسقطهم أصوات الناخبين. إن الحلم الاخواني بقيام الدولة الدينية يفسر إلى عد بعيد تمثلاتهم للديمقراطية، ليس باعتبارها مساحة للتعدد والاختلاف، بل مجالا للاحتواء والسيطرة.لهذا يبتعد الخطاب السياسي عند هؤلاء من لغة الاقتصاد ، والمالية، والأرقام ويكرس خطابات شعبوية تقوم على تقسيم المجتمع الى أطياف الصالحين، وغير الصالحين، أطياف المؤمنين، وغير المؤمنين، أطياف الشياطين وغير الشياطين...إنها مقدمات نظرية لتأسيس نموذج الدولة التيوقراطية التي لا تؤمن بمبدأ "الاختيار الديمقراطي"...من هنا، قد نفهم جزءا من الصراع بين العدالة والتنمية، والأصالة والمعاصرة.