لعل إحدى أهم الحقائق المغيّبة في منظومة العولمة المهيمنة على أنساق السياسة الدولية، والتي ترسم مصائر الشعوب، هي تسويق الإدارة الأميركية على انها (شرطي العالم)، الذي يلوح بهراوته هنا وهناك، كلما دعت المصلحة او الضرورة! ويأتي هذا كإفراز لعالم أحادي القطب إثر انهيار الاتحاد السوفييتي قبل عقدين ونيّف. ووفق هذا التصور نشهد الحضور الأميركي بوطأته الثقيلة في معظم الأزمات الدولية العابرة للقارات، والمنعكسة غالباً عن أزمات إقليمية، لا يُبرّأ الأميركيون من حصولها او اختلاقها! وحتى يذهب (شرطي العالم) في دوره الى نهاية الشوط، على الجميع أن يُسلّم بهيبته وسطوته؛ وانه (المنقذ) الذي يضطلع بمسؤولياته الكوكبية والكونية على أفضل وجه! ولضمان انتعاش السطوة الأميركية في المشهد الدولي، تسعى أميركا الى إدامة الأزمات وتطويعها، تلك التي تغذي الإستراتيجية الأميركية في الهيمنة والتزعم. وبالطبع لن تكون الأهداف المعلنة هي ذاتها المستترة، وهذا ما شهدناه ونشهده في أزمات دولية وإقليمية عديدة، ومنها التي تستعر حرائقها في المنطقة، أي الحرب الارهابية التكفيرية بزعامة داعش وأخواتها، والتي كشفت عن الدور الأميركي في نشأة تلك التنظيمات وصعودها، دعماً وتأهيلاً وتمكيناً، وتوفير التسهيلات عبر التعاون مع محور الارهاب في المنطقة (السعودية وقطر والأردن وتركيا وإسرائيل). ورافق ذلك تهويلاً إعلاميا واضحاً يسلط الضوء على قدرات التنظيم ويضخمها من جهة، ومن جهة أخرى امتلاكه لخزين من الرعب يمكن به أن يصرع أعداءه قبل أي مواجهة. وبالطبع لن تنعدم الوسائل لتكريس هذا الرعب، كحفلات الذبح ودحرجة الرؤوس والتمثيل بأجساد الضحايا، وأكل الأكباد! يتم في مفاصل عديدة الافتئات المتعمد على الحقائق، لتحريف بوصلة الرعب، بما لا يصب في مصلحة الضحايا أحياناً، ومجزرة سبايكر مثال حي، حيث الجناة معروفون، وما يزيد على 1700 ضحية معروفون أيضا، ومع ذلك مارس الأميركيون، الذين يقفون وراء صناعة الرعب، إقصاءً تعسفياً كي لا تتصدر المجزرة (مع فائض الرعب المصاحب لها) المشهد الإعلامي والسياسي الأميركي والغربي، لئلا يفضي الموقف الى التعاطف الحقيقي والمثمر مع الشرائح المستهدفة في المجزرة وأولياء الضحايا الذين يمثلون طائفة بعينها، على وقع ان المجزرة هي تطهير طائفي بامتياز، ومن ثم لا يُمهد لإعطاء الشرعية المحققة ل"الحشد الشعبي" العراقي باعتباره رقماً صعبا في المعادلة، نتج عن فتوى الجهاد الكفائي للمرجعية العليا، خصوصاً وان التوجه الأميركي كان متوجساً من هذا الحشد من ولادته، وناصبه العداء في التصريحات والإعلام الموجّه! ثمة تكتيك في إدارة الرعب مؤداه ان يُنمّط محلياً، ليسهل فرزه والتعامل معه بمعايير مختلفة تناسب كل ساحة وكل متلقٍ، فتهديم المقدسات ودور العبادة، وبيع النساء كجواري والاعتداء على الأعراض، هي اقترافات تحمل معها حزمة رعب داعشية، يمكن توظيفها في البلدان الاسلامية بحرفية عالية، حيث لا تنفصل في ذهنية المسلم/ الضحية عن جرائم القتل والابادة والتنكيل بالأبرياء، بينما لا تهز حزمة الرعب السالفة جمهور الأميركيين والغربيين، اذ هؤلاء سيُخاطبون بحزمة رعب تناسبهم؛ وتفجر لديهم صواعق الرعب اولاً، والتسليم لسياسات حكوماتهم (التي تصرح بالقضاء على الارهاب) ثانياً! فتكون مشاهد قطع رؤوس الصحفيين وموظفي الإغاثة الأميركيين والأوربيين مادة ملائمة لضخ الرعب، خصوصاً حين التأكيد على (براءة) هؤلاء الضحايا، وانهم يمثلون النبل البشري والمهام الإنسانية، فيجزرون بسكين يمسكها (إرهابي) ملثم، مسلم، يبدأ باسم الله، ويختم بالله أكبر! وهنا تتفرع مضخة الرعب الى مسارين، الأول موجّه لرسم التهديد الوجودي للمتلقي الغربي، والثاني يستهدف وعيه، وإرعابه ب(الارهاب الاسلامي) الذي يهدف الى قطع رؤوس (الأبرياء) من غير المسلمين، وهنا تكتمل الصورة النمطية في ذروة المشهدية المبتغاة، وهي الصورة التي زُرق بها المواطن الغربي منذ نعومة أظفاره ضد الاسلام والمسلمين. ليس ضرورياً أن يكون الشعب الأميركي شريكاً في خطط (شرطي العالم) فيما يخص السياسة الدولية؛ بل ربما هو ضحية لسياسة التجهيل المتبعة بحقه، والذي يصبح فريسة سهلة لنوايا النخب السياسية التي تزج به في أزمات دولية معقدة، لا يخيّر فيها المواطن الأميركي، وعليه أن يدفع تكاليفها من الميزانية العامة وارتفاع في الضرائب وتقليص في الخدمات والضمان الاجتماعي. فلقد أظهرت دراسة قام بها مركز أبحاث "كانتارب" للشؤون الإعلامية فى أوائل أغسطس المنصرم، إنه في 1155 دعاية انتخابية بثتها الشبكات التليفزيونية الأميركية منذ مطلع العام، بلغت نسبة الدعايات التي تم تخصيصها لشؤون السياسة الأمريكية الخارجية أقل من 3% فقط! ان التحكم بمؤشرات الرعب يعزز خطط (شرطي العالم) في شحن الحلفاء الغربيين بالحماسة اللازمة للتسليم له بالقيادة، ومن ثم حلبهم وجرّهم من تلابيبهم لتنفيذ ما يمليه عليهم من مخططات تخرج من البيت الأبيض والبنتاغون، بعد أن يظهر في دور المنقذ، الذي تنتظره البشرية، ويكون قد هيّأ المسرح لفصل آخر، تبدأ فيه دورة رعب أخرى على نقطة من كرتنا الأرضية، لا فرق أن تأتي على أيدي دواعش جدد، أو فيروسات عابرة للقارات! * * * انفلونزا الطيور، سارس، انفلونزا الخنازير، كورونا، هي أمثلة لأوبئة صدّرت الرعب بأعلى درجاته للمجتمع البشري، اذ تظهر فجأة، ولا تلبث أن تختفي أو تهمد، ولا مبرر عقلاني أو إحصائي أو علمي يفسر ذلك الاحتجاب الفجائي، في حين كانت تشغل الخبر الأول في نشرات الأخبار العولمية! بموازاة وباء داعش وأخواتها، أطل وباء "إيبولا" بفيروسه من ليبيريا في الغرب الأفريقي، وهو واحد من أفقر البلدان في العالم حسب التقرير الدولي للأمم المتحدة، حيث نسبة العمالة الرسمية عند 15% فقط، وتنعدم هناك التدابير الصحية الوقائية بسبب الفقر وتفشي الأمية، مما يفسر سرعة انتشار الوباء. وحظي إيبولا بنصيب وافر من التضخيم بشأن (مخاطره) كوباء (مدمر)، وشهدنا النفخ المدروس في ذلك التضخيم من وسائل الإعلام الأميركي والغربي، ولتعزيز تلك المخاطر، استغل هذا الإعلام حالتي (إصابة) لطبيبين -رجل وامرأة- أميركيين كانا قد (أصيبا) بالوباء أثناء عملهما الإغاثي في ليبيريا، وقد حظيت حالتهما بتغطية إعلامية واسعة تجاري تغطية (الحرب على الإرهاب)، ووصلت ذروة الاهتمام لدى نقلها الى أميركا للمعالجة (عبر بث مباشر)، ومن ثم ظهورهما بعد أيام على انهما قد (شُفيا) من الوباء (القاتل) بفضل عقار أميركي مبتكر! وكان قد ضُرب طوق حديدي من السرية حول (إصابة الطبيبين) ومن ثم علاجهما. وما لبثا ان خرجا على الشاشات الفضية العولمية، وبابتسامات عريضة يزفون بشرى (علاجهما) بفضل العقار الأميركي! إطّلع المتابعون على استنفار الماكنة الإعلامية الأميركية ومعها إمبراطورية مردوخ العابرة للقارات بعين الريبة، في ضخ الرعب الوبائي عن إيبولا، وتشكيل حصة من كوابيس البشرية التي لا تنتهي، والغريب ان تلك الماكينة والإمبراطورية ذاتها من ستعمل على إزاحة التغطيات الإعلامية للوباء و(أهواله) الى الصفوف الخلفية والمعتمة بعد فترة قد لا تطول! ما يلفت النظر حقاً ان أجراس الإنذار من مخاطر الأوبئة العالمية لا تقرع سوى من واشنطن في كل مرة، وكأنها الوحيدة القادرة على (استشعار) تلك المخاطر، وان باقي عواصم الدول العظمى والمتقدمة عاجزة عن هذا الاستشعار، أو جفّ لديها (حسّ المسؤولية) الذي احتكرته قرون الاستشعار الأميركي! والمحيّر أكثر، وبعد أشواط من الرعب المصدّر للبشرية مصحوباً بحبس الأنفاس، يأتي الأميركيون بوصفات الإنقاذ، على شكل أمصال أو عقار جديد، وعلى الدول المرعوبة (القادرة على الدفع) أن تسدد لأميركا بالمليارات، حتى (تنقذها) من ذلك الرعب الذي كاد أن يجلب الفناء! أو على أقل تقدير، تتحول الى رهينة للعلاج الأميركي، وهنا تشبح المفارقة العارية، لماذا العلاج أميركي حصراً؟! كل الدلائل تشير الى وجود أجندات أميركية وراء تضخيم (خطر الأوبئة) على الساحة الدولية بين فترة وأخرى، وفي توقيتات لا تنعدم فيها الشكوك والشبهات! وهي جزء من ألغاز المطبخ السياسي الأميركي، وربما ثمة عواصم قرار متفرقة تقف على جزء من الحقائق أو أغلبها، ولكن يشملها جميعا عنوان كتاب السناتور الأميركي بول فندلي؛ "مَن يجرؤ على الكلام"! ولكن البعض قد (تجرأ) فعلاً، وكشف عن تهافت التهويل بشأن إيبولا. وحول القائلين بأن احتمال تحول إيبولا إلى فيروس ينتقل عبر الهواء، يرى "ايان جونز" عالم الفيروسات في جامعة "ريدينغ" في بريطانيا؛ "أن هذا الاحتمال يأتي في قاع قائمة الاحتمالات بشأن شكل إيبولا في المستقبل، مضيفاً أنه احتمال لن يحدث أبدا" (موقع دويتشه فيلله- 19.09.2014). كما ان "إيبولا مرض معدٍ ينتشر عبر التعامل المباشر مع السوائل التي تخرج من جسد المصاب، مثل الدم أو البراز أو القيء" (نفس المصدر). ويعزز هذا الرأي ما هو مثبت في "موسوعة ويكيبيديا" اذ جاء بشأن إيبولا بأنه؛ "لم يتم توثيق انتقال الفيروس عن طريق الهواء، ولا يوجد دليل يوثق العكس في البيئة الطبيعية".، كما جاء في نفس الموضوع؛ "تعتبر احتمالات العدوى على نطاق واسع لمرض إيبولا الفيروسي منخفضة، حيث أن المرض ينتشر فقط عن طريق الاتصال المباشر مع إفرازات من شخص تظهر عليه علامات للعدوى". وحسب ما ورد آنفاً، وتحديداً حول العدوى، يتضح جليّاً ان طرق الانتقال والعدوى عبر التعامل المباشر مع السوائل التي تخرج من جسد المصاب، مثل الدم أو البراز أو القيء، هي مشتركات عامة مع مئات الأمراض والأوبئة، المتوطنة منها او العابرة للقارات، ولا يمكن أن تكون في ذاتها أسباباً كافية لتوزيع هذا الكم من الرعب على البشرية، والتي لا ينقصها هزات أو أصناف من الرعب تعيشها أصلاً، وهذا التهويل الإيبولي القائم يستدعي وضعه في دوائر شك كثيرة، والبحث عن الدوافع الأميركية في تشكيل هذا الرعب الوبائي في هذا الوقت بالذات، وكيف يتصل بترويج معلومة ان فيروس إيبولا يعتبر من الفئة (A) من ضمن الأسلحة البيولوجية. وكان مجلس الأمن الدولي اعتبر مؤخراً فيروس إيبولا مصدراً "لتهديد السلم والأمن الدوليين"، في سابقة من نوعها، وإحدى المرات النادرة في تاريخ المجلس الذي يتدخل في أزمة متعلقة بالصحة العامة! كما صرح البيت الأبيض بأن أميركا سترسل 300 (جندي) أميركي ل(مكافحة الوباء) في دول غرب أفريقيا، وصرح أوباما عقب ذلك بأنه يسعى عبر هذه الخطوة الى "تحويل المسار فيما يتعلق بجهود مكافحة الوباء"! وظلت العبارة مبهمة لأكثر المتابعين حتى اللحظة، ولماذا أعمال (الإغاثة) تقتصر على إرسال القوات العسكرية، بينما ظاهر الأزمة صحي؟! وفي هذا الصدد، لا يفوّت الإعلام الأميركي أية فرصة للتذكير بأن فيروس إيبولا يمكن استخدامه في الأسلحة البيولوجية، وكأن التلميح مقصود من جهة اعتبار الحماس الأميركي يخلص الى (الحرص على مصير البشرية) من إي استخدام إرهابي للفيروس! ببساطة، انه إيحاء درامي لسيناريو هوليودي يحاكي أفلام الرعب والخيال العلمي! وعندنا، لمس الجميع مدى وحشية وفتك وباء داعش وأخواتها، الذي تشكل من فيروس التكفير الوهابي، وكيف استغل الأميركيون من ضخ الرعب على الكوكب، الذي أنتج التحالف الأربعيني (ربما تصاعد الرقم حتى الساعة)، ولكن (بعض) مصيبتنا، ان أغلب السياسيين لدينا حائر لحد اللحظة، هل يكتفي بغسل اليدين جيداً قبل الطعام للوقاية من وباء داعش، أم ينتظر أن يُزرق بمصل أميركي يقيه شر الوباء؟! - معلومة لا تضرك؛ "أثناء موجة فيروس سارس عام 2003، أصيب ثمانية أمريكيين فقط به، ولم يتوف أي منهم، ولكنه خلّف ما لا يقلّ عن 800 وفاة في أنحاء متفرقة من العالم، بما كلّف نحو 40 مليار دولار".. المصدر؛ (طوم فريدن، مدير المراكز الأمريكية لمراقبة الأوبئة والوقاية منها. موقع السي أن أن العربي- 06 مايو 2014). بعد هذه المعلومة (خصوصاً ال 40 مليار دولار)، هل ينتاب أحدنا الشك في مقدار التهويل الممارس، بشأن إيبولا أو سارس وباقي الأوبئة، ووجود أجندات خفية كثيرة؟!