أضحى من الواجب اليوم على المغاربة في تنوعهم الثقافي و الإثني و اللغوي و الهوياتي التعامل بحزم وعقلانية مع "الفكر الداعشي" و " دواعش الداخل" واليات اشتغالهم. كيف؟ لا يخفى أن " الفكر الداعشي" كما يزهراليوم في بلاد العراق والشام وغيرها من البلدان، لم يتأتى من الفراغ، بل نتيجة تراكم عدة عوامل ساهمت فيها قنوات تنشئتنا الإجتماعية، لاسيما الأسرة و المدرسة و الإعلام. ليكن الأمر واضحا بكل إختصار، فالأسر التي تقدم لأبنائها الشخص الملتحي على أنه شخص مسلم، أمين، ذو ثقة، محترم وعلى حق، فقط لأنه شخص ملتحي، فإنها تزرع بشكل أو بأخر فكرة تكفيرية في عقول أبنائها، بمعنى أن الإبن أو الإبنة يدركان أن نقيض الشخص الملتحي يفتقد للصفات الحسنة السالفة، وتتشكل لهما صورة ذهنية تكفيرية على الأخرين المختلفين مع الشخص الملتحي. تتناغم هذه الصورة مع ما يتلقاه الأبناء في المدرسة من أفكار العنف و التحريض و كراهية الأخرين من خلال المقررات المدرسية، يتم ذلك في صور متنوعة ومتعددة، سواء من خلال تحميل مسئوولية تخلف واندحار المسلمين عبر العالم للأخرين المختلفين معهم في العقيدة أو الثقافة، أو من خلال تقديس السلف بتقديم المسلم الصالح في صورة شخص ملتحي بلباس قديم وبسيف في يديه، وتمجيد معاركه الدموية الطاحنة، والتسليم بأن مثواه الجنة كما سيق ذلك في الكثير من كتب تاريخ هذه المعارك زمن الإنتشار العربي باسم الفتوحات الإسلامية خاصة في عهد الأمويين. يساهم في تكريس هاته الصورة العنيفة بوعي أو عن غير وعي أحد الأطراف الأساسية في العملية التعلمية (الأستاذ)، خاصة الأساتذة القادمون من المعاهد الدينية الكلاسيكية. إن هاته الصورة الذهنية العنيفة والتكفيرية التي تتشكل عند الناشئة، تتحول الى مسلمة، بل الى يقين في ذهن الناشئة مباشرة بعد تلقيها كل هذا الإرهاب الفكري والنفسي و الذهني والمادي عبر الفضائيات الدولية، إنطلاقا من القنوات "الدينية" التي يملكها شيوخ البترودولار في الشرق و الخليج، والتي غرقت في التطاحن المذهبي و السياسي تحت جبة الدين الإسلامي، الى القنوات الإخبارية الدولية الموالية للإتجاهات المذهبية المتطاحنة ذاتها و التي تحظى بمتابعة كبيرة. "دواعش" الداخل هم بالالاف وقد نجازف بالقول أنهم بالملايين، والفرق بين "دواعشنا" و"دواعش" الشام و العراق هاته الأيام هو أن "دواعش" العراق و الشام إحترفوا القتل، بينما "دواعشنا" مازالوا خلايا خلفية نائمة أو احتياطي "الداعشية" تلجأ إليهم هده الأخيرة متى أرادت ذلك وبشكل سهل. قد يطرح الكثير منا سؤالا حول كيفية إستقطاب هؤلاء للسفرأو بالأحرى الإحتراف الى العراق الشام؟ الجواب يكمن في أن بيئتنا اليوم جد مناسبة بل خصبة جدا ومهيأة سلفا لزراعة "داعش" أكثر من أي وقت مضى بفعل العوامل السالفة الذكر. يكفي "لداعشي" أن يجالس معطلا مسحوقا أو يتيما متخلى عنه أو أميا يعيش ضرواة الحياة، ليعرض عليه المال و السلاح والحوريات و الجنة في الأخير، وقبل ذلك حياة الكرامة و العزة، بذل واقع الذل و الهوان المعاش، وما يمكن أن يرافق ذلك من تصوير لحياة "جهاده" وتقديمها على أنها بطولة عبر اليات التواصل الحديثة في قالب تشويقي مغري، وهو الضحية الذي يحمل مسبقا فكرا داعشيا عاما وخاما، حتى يوافق بشكل سريع وفي أيام فقط. العملية تتكلل بتذكرة سفر من إحدى وكالات الأسفار العادية المنتشرة بأحياء مدننا الى أحد مطارات تركيا أردوغان في فجر إحدى الليالي، ومن ثمة التوجه الى بلاد الشام و العراق بشكل يسير. قد يقول قائل أن العشرات من "الدواعش" من الفئات المثقفة والغنية والميسرة، تسمح في أملاك وعقارات وأموال وزوجات وأبناء، هذا صحيح، هؤلاء موعودون بزوجات أخر حوريات وأموال حلال، وبأبناء من سواد الأمة الأخرين وبمناصب القيادة، والفتوى و الزعامة والتأطير و الجنة و...الخ. الواقع اليوم يقول أن عددا كبيرا من "دواعش" العراق والشام مغاربة، لهم من الإمكانيات ما يسمح لهم ببعث "داعشيتهم" في "دواعش" الداخل بل وتنفيذ مخططاتهم الإرهابية في الداخل في مناخ إقليمي وعالمي هش يساعدهم على ذلك. هذا الواقع إن أضحى اليوم يشكل فزاعة وتهديدا صريحا للأمم ومنها المغرب، بل وأكبر خطر منذ الحرب العالمية الثانية أواسط الأربعينيات بحسب أكبر خبراء العالم في مكافحة الإرهاب، وبما أن الواقع على هاته الدرجة من الخطورة فإن المقاربة الأمنية التي تعتمدها السلطات المغربية اليوم هي مقاربة علاجية مؤقتة ومكلفة ماديا وسياسيا وحقوقيا دون القضاء على الظاهرة بالرغم من نجاعتها لحدود اليوم، كما أنه بحسب التجربة الأمريكية لابد لها من أخطاء وثغرات تسمح ببعث الرعب في المجتمع، وتتسبب في إحداث هزات مجتمعية قد تجهض كل أحلام المغاربة في تحقيق الإنتقال الديمقراطي، وحالة 16 ماي 2004 وما تلاها من التضييق على الحريات و قمعها ونكوص مسلسل التغييرخير دليل على هذا الكلام. إذا كانت المقاربة الأمنية غير مجذية فما المقاربة الأكثر نجاعة لمحاربة الظاهرة "الداعشية" اليوم في المغرب؟ الرد يكمن في الإجابة على أسباب تنامي "الداعشية" بالمغرب كما أسلفنا، كيف؟ المغرب اليوم مطالب بتحديث قنوات تنشئته الإجتماعية من المدرسة ومقرراتها، الى الإعلام، الى تحسيس الأسر والاستجابة لحاجيات المجتمع الإقتصادية أساسا والحقوقية والثقافية، وذلك في مقاربة شمولية تشاركية مع مواصلة محاربة الفساد و الفاسدين خصوصا في القطاعات الحساسة للدولة. المجتمع المغربي، أضحى اليوم مطالب بإستنفار أبنائه وبناته أكثر من أي وقت مضى ليكون في مستوى التحديات التي تواجه البلد، الداخلية منها و الخارجية، مع تعزيز منظومته الحقوقية وتفعيل مساطر الحكامة والمحاسبة، و التخلي عن منطق الصورية في الأشياء وتنصيب المؤسسات. وبما أن معركة محاربة "الداعشية" معركة أجيال في ظل التباطئ وغياب رغبة الفاعلين الكبار في التقدم وتجسيد الشعارات على أرض الواقع فليبشر المغاربة بسنوات الركود و الجمود الأخرى بل وبمأسي أخر لا قدر الله.